لننظر الى ذلك بشكل موضوعي لنقرر اولا ما هي الإنجازات الفعلية وما هي المزيفة التي تقدم كرشاوي لخداع الناس.
أهم صفة للإنجاز انه يقدم وعدا بمستقبل أفضل، اما الرشوة فبالعكس تماما. تعطي راحة للمرتشي، لكن على حساب تخريب اكبر للمستقبل، او للوطن. يعني الصفة المميزة للرشوة هي: استفادة الراشي والمرتشي، وضرر يصيب الوطن او المستقبل أو الأجبال القادمة أو اية جهة أخرى غائبة عن الصفقة، وغير قادرة في تلك اللحظة على الدفاع عن حقها، او لا تعيه، فيسلب الراشي والمرتشي حقها.
لو فرضنا أنك اشتغلت بشكل افضل واكثر تنظيما والتزاما وبكفاءة اكبر، فتضاعف دخلك وصرت تصرف بالشهر 600 الف بدل 300 الف فهذا "إنجاز"! إنه يجعلك مرتاح وسعيد ويدفع بك الى الأمام ويحقق لك مستقبل افضل وبدون سلب حق أحد، ويحق لك ان تفخر به.
لكن ماذا لو انك لم تزد كفاءتك ولا عملت أفضل، وضاعفت مصروفك بالأخذ من مدخراتك؟
من الخارج سيبدو الأمر مشابها للإنجاز الأول، وستبدو سعيدا اكثر ومرتاح، لكنك تعلم انها سعادة مزيفة وانك تضحك على الناس وعلى نفسك. لا أحد يسمي هذا إنجازا. إنه رشوة من نفسك لحاضرك، على حساب مستقبلك وحقه عليك. فمن اي من النوعين هي "إنجازات" السوداني؟ لننظر:
توقيع الاتفاقات بذاته ليس انجازاً، لأن الاتفاق قد يكون في صالح الدولة (وعندها يسمى انجازا) وقد يكون لغير صالحها (وعندها يسمى خسارة). وعقود السوداني لم نعرف بعد، إن كانت لصالح الدولة ومستقبلها أم لغير صالحها، فكيف حسبها هذا النائب انجازا للسوداني؟ بل ان هناك مؤشرات قوية جدا بأنها عقود سيئة سلقت سلقا بدون دراسة ومفاوضات وبدائل ومنافسة. كذلك نعلم مثلا ان السوداني ماض بتنفيذ عقود توتال، التي قدم الاستاذ أحمد موسى جياد دراسات حذرت وطالبت بإلغائها لشدة مساوئها! وهناك اشارات بأن سيمنز طلبت اسعارا خيالية لعقودها.. في كل الاحوال لا يمكن التحدث عن إنجازات مسبقة إلا من قبل من يريد ان يطبل للسوداني بالحق والباطل.
خليجي 25 او اية بطولة رياضية هي مسألة صرف فلوس وإدارة، لا اكثر ولا أقل وتستطيع اية دولة أو حكومة مهما كانت تافهة، أن تقيم بطولة إذا كان لديها المال اللازم لذلك، فكل شيء يشترى في هذه الأمور بالمال: الملاعب والإدارة والشركات والعروض المبهرة وكل شيء. لو اعتبرنا تنظيم بطولة الخليج انجازا يبين قوة الدولة، لتوجب اعتبار قطر دولة عظمى لأنها نظمت قبل فترة قصيرة بطولة العالم ذاتها! لكنها قطر ليست دولة عظمى، وليس تنظيم حتى بطولة العالم انجازا، وبالتأكيد لا يمكن اعتبار خليجي 25 انجازاً. إن الفرح بالبطولة مفهوم ومقبول، لكنها في حقيقته ليس إنجازا حقا، اذا كان كل من يملك المال يستطيعه. إذا كانت إدارة الأموال والبطولة ممتازة، ربما يكون هناك ما يفخر به بشكل بسيط، لكن هذا لا يشبه كمية التطبيل للإنجاز الذي قيل ان السوداني قد حققه بالبطولة (ومتابعتها شخصيا طبعا، كما يفاخر اعلامه الذي ينسب كل فضل له شخصيا، وبشكل خطر). ومما حدث اثناء البطولة لا نستنتج ان ادارتها كانت متميزة على كل حال. وإذا تساءلنا عن الأموال التي صرفت عليها ومدى حاجة بنية العراق التحتية اليها. هذه الحقائق تم خنقها ودفنها من قبل حملة إعلامية رهيبة ومنظمة لقمع كل من يقول شيئا عنها، وباستخدام كل الأسلحة الإعلامية، وحتى الطائفية منها، واصبح الحديث عنها مرتبطا بمشاعر سلبية شديدة مرفوضة.. لكن الحقائق تبقى حقائق، ولا تعتمد على مدى تقبلنا لها. إنها لم تكن إنجازا، بل رشوة مميزة وأدت دورها بإعطاء انطباع مزيف جميل بأن هناك تغييرا إيجابيا كبيرا قد حصل، وتتوج ذلك بفوز الفريق العراقي، مما اسهم في تقوية هذا الإحساس بحجم الإنجاز. ومعروف ان استخدام كرة القدم لتقديم بديل للكرامة المهدورة، مسألة تاريخية عالمية يلجأ إليها عديد من الحكام لتهدئة شعوبهم، كما فعل موسوليني في اسبانيا.
ماذا عن منح المواطنين قطع أراضي، وتحويل مساحات من اراض زراعية الى اراض لغرض السكن لتوزيعها؟ إنها نفس الحيلة ونفس الخدعة ونفس الرشوة بالضبط! إنها تكلف الدولة أمولا (بشكل أراضي) وتضع ثقلا على حكومات المستقبل لنتائج هذا التوزيع الاعتباطي وضرورة تقديم كل الخدمات لساكنيها.
تحدث السوداني في مقابلته الأخيرة عن خطته لبناء "مدن"، وتوزيع بعض بيوتها على الفقراء مجاناً. هل هذا انجاز ام رشوة؟
إنه أيضا رشوة سياسية وبهرجة إعلامية أكثر مما هو انجاز أو حل لمشاكل
الفقراء. فالسوداني حريص على "شكل إنجازه" وظهوره وكأنه هو بالذات من
انجزه، اكثر بكثير من محتوى "الإنجاز". وهذا واضح من زيارته الشخصية
لمستشفى الكاظمية لتفتيشها بنفسه بدل الاجراء المنطقي بتكوين فريق تفتيش مختص يشرف
عليه الوزير (لكنه هنا لن يظهر في الصورة كثيرا). وكذلك استعراضه المخزي لكمية من
الأموال على أساس انه قام باستردادها، ثم تسليمها شخصيا الى البنك امام التلفزيون –
استعراض رخيص للغاية يثبت فيه انه محتال رخيص أيضا، وانه مستعد ان يجعل من نفسه
اضحوكة من أجل شكل "الإنجاز" وليس الإنجاز نفسه.
"توزيع البيوت على الفقراء مجانا" هو واحد من هذه الاستعراضات
الرخيصة. إنه طبعا مجرد "وعد" لم ينفذ وعلى الأكثر لن ينفذ الا ربما
بشكل عدد رمزي، لكنه يؤدي وظيفته حتى حين يكون "مجرد وعد" وهذا ما يدركه
مديري أوركسترا الطبالين للسوداني. وما يكشف زيف هذا الإنجاز هو حجم الوعد
المستحيل التحقيق، وشدة لمعانه، وخطأه من الناحية العملية. فكم بيتا لكم فقير
ستمنح؟ ولماذا هذا القفز الهائل من عائلة تسكن الصرائف، الى عائلة تملك بيتاً
فجأة؟ امتلاك البيوت ليس أمرا سهلا ومن الحقوق الأساسية للإنسان، وأنا مثلا اسكن
هولندا منذ عشرات السنين قضيت معظمها كمهندس حاسبات كشركة من شخص واحد، ولا املك
بيتا ولا شقة، واعيش بالإيجار.
الطبيعي هو ان تبني بيوتا بسيطة قدر الإمكان للفقراء، ثم "تؤجرها" لهم
بمبلغ بسيط، وان يكون سكنهم فيها مرهون بكونهم فقراء. فإذا صار لديهم ما يكفي من
المال، أعطيت لمن هو افقر منهم، وهكذا؟
لماذا لا يفعل السوداني ذلك؟ لأنها عندئذ لن تملك بهرجة الإعلان، بأن
السوداني "منح" الفقراء بيوتا! ولن يترك الجميع يحلم بأن القدر والحظ
سيصله لكي يحصل على البيت! يعني كل الهدف من المشروع سيزول!
ماذا عن
"تثبيت الآلاف من اصحاب العقود"؟ او تعيين آلاف الموظفين الجدد؟
لو كان
هذا بفضل انشاء مشاريع انتاجية ناجحة مثل بعض المعامل او المزارع، لأمكننا
اعتبارها "انجازا". أما تحشيد الموظفين بدون اية زيادة في الإنتاج فهو
بدون شك رشوة غير امينة للناس، وعمل خبيث يعلم صاحبه ان نتائجه المستقبلية ستكون
سيئة على البلد، لكنه لا يهتم! لكن كم هو عدد الموظفين المناسبين في كل شركة أو وزارة؟
طبيعي صعب تقدير هذا بدقة، لكن بعض الوزارات
الإنتاجية تسهل الأمر. فلدينا إحصائية بالنسبة لوزارة الكهرباء مثلا، والتي يعتمد
عدد موظفيها بشكل تقريبي على كمية الكهرباء المنتجة، وهو 2 ميكا واط لكل موظف
وعامل.
لدينا اليوم بحدود 22 كيكا واط مع الاستيراد.
واذا حسبنا الاستيراد مثل الإنتاج (وهو أقل بكثير)، يفترض ان يكون في وزارة
الكهرباء اليوم 11 ألف موظف. فما هو عدد الموظفين الفعلي في وزارة الكهرباء؟
وزارة الكهرباء كان لديها 180 الف موظف في
زمن حيدر العبادي. يعني أكثر من 16 مرة بقدر الرقم الطبيعي! وكان لديها 103 الف
موظف بعقود! وقام الوزير لؤي الخطيب في زمن عبد المهدي بتثبيت هؤلاء فصار العدد في
الوزارة اكثر من 280 ألف موظف! يعني كل 25 موظف يقومون بعمل موظف واحد! ولا ندري
كم وصل العدد الآن وكم هي النسبة المخيفة التي وصلت اليها. وهكذا حال كل الوزارات
والمؤسسات التي قام السوداني بتثبيت عقودهم!
فهل هذا "إنجاز" ام رشاوي تدمير
للبلد ليقال عنه خوش آدمي؟ نعم ان من حق الناس العمل، لكن بأن تبني لهم مؤسسات إنتاجية
وليس بإضافتهم الى جيش البطالة المقنعة التي تنهك الدخل الوطني، بكل انعدام ضمير.
فإذا جاءت غدا ازمة أسعار نفط، لم يكن لديك رواتب لهم!
الصحيح ان تقدم الخدمات البسيطة أولا، كبناء
المدارس قبل بناء الملاعب، وان تعبد الطرق المدمرة، قبل ان تتعاقد على "قطار
طائر" لتبهر السذج وتدمر ثروة البلد. فلولا ثروة النفط التي حار الاحتلال واتباعه
مثل السوداني بكيفية تبديدها قبل ان يبني الشعب العراقي بها بلده ومستقبله، لحلت
كارثة في هذا البلد.
الصحيح هو ان تسعى الى ابعاد كل امريكي تستطيع ابعاده، عسكريا كان ام مدنيا، من
البلد. فهم يستلمون رواتبهم وتصرف عليهم الأموال بهدف تدمير البلد ليس إلا. ومأبون
من يدرك هذا ويصر على تسويقهم كأصدقاء وحلفاء وشركاء ليطيل خداع الشعب. إننا نعيش
بفضل ثروة الأرض، وهم يعملون بجد لتنتهي هذه الثروة بأسرع وقت، وعندها سيدرك
الجميع متأخرين أنها لم تكن إنجازات، بل رشاو لهم لتفويت فرصة بناء البلد وإنقاذ المستقبل.
لكن البلد ربما يكون قد تحول إلى مسلخ يتذابح فيه عشرات الملايين من الجياع من اجل
قوتهم،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق