عندما نقرأ تفسيرا لحدث سياسي لنتوصل الى أسبابه، نتوقع أن أول ما يحسب هو مصالح "الأطراف". فإذا كان التفسير يبين ان كل طرف تصرف وفق ما تمليه مصالحه (أو مبادئه التي نعرفها)، فالتفسير "معقول"، وإلا فلنا ان نهمله. لكن الأمر الذي يجب ان ننتبه له هنا هو عبارة "الأطراف". فلأجل ان يتصرف كل "طرف" لمصلحته، يحتاج أن يمتلك "السيادة على قراره"، وإلا فعلينا ان نحسب بدلا منه، الطرف الذي يملك السيادة عليه! إن نجاحنا بالوصول الى تفسير صحيح لحدث او موقف سياسي، يعتمد تماما على رؤيتنا لـ "صاحب القرار"، وهو ليس بالضرورة الدولة أو الجهة التي يصدر باسمها القرار أو الموقف، كما هو الحال بالنسبة للدول ذات الحكومات العميلة مثل مصر والسعودية والعراق والإمارات. وإن نسينا ذلك وقعنا في خطأ خطير.
مثلا، موقف الكويت والسعودية بزيادة انتاج النفط بعد حرب صدام ضد ايران، وبشكل خفض معه سعر البرميل الى درجة اصابتهم بالضرر وصاروا يبيعون من النفط أكثر والمردود أقل لهم. وكان صدام مدينا لهم بمبالغ كبيرة صار عاجزا عن سداد حتى فوائدها، وانتهى بدخول صدام الكويت وتهديده السعودية!
لو حاولنا تفسير ذلك بتتبع "مصلحة" تلك الدول، لفشلنا! ولو حاولنا تفسير اهداء السعودية قبل بضعة أشهر، ل 400 مليون دولار لأوكرانيا، أو تفسير امتناع العراق عن طلب ثمن نفطه مباشرة عبر مصرفه المركزي بدلا من البنك المركزي الأمريكي، او لقطع العلاقات مع سوريا أو عدم استيراد مولدات الكهرباء من إيران بنفس المواصفات ونصف السعر لسيمنز الألمانية أو جنرال موتورز الامريكية، لما وجدنا تفسيرا معقولا من خلال مصالح تلك "الأطراف" في هذه المواقف.
لكننا لن نجد أية مشكلة في تفسيرها وفهمها إن تذكرنا أن صاحب القرار في دول الحكومات العميلة هو أمريكا! وعندها يصبح السؤال الأدق: ما هي مصلحة امريكا في خفض السعودية والكويت لأسعار النفط بزيادة انتاجه؟ يصبح الجواب واضحا بعد اكتمال المؤامرة التي انتهت بتدمير العراق ودخول القوات الامريكية السعودية والكويت لأول مرة وفرض شروطها عليهما. ولن نجد مشكلة في تفسير "تبرع" السعودية الكبير لأوكرانيا، ولا في صفقة الاسلحة الخرافية بنصف ترليون دولار، او انعدام العلاقات بين العراق وسوريا، وإبقاء البلد مقيدا للبنك المركزي الأمريكي. فعندما نعرف "الطرف" الحقيقي في الموقف، ونطرح السؤال الصحيح: "ما هي مصلحة أمريكا في ذلك" يصبح الجواب واضحا جدا وبسيطا.
لماذا نقع تكرارا في هذا الخطأ؟ لأن الشكل يخوننا ويخفي الحقيقية، ونحن نميل الى تصديق الأشكال التي "نراها". فللسعودية "شكل الدولة" وكذلك للعراق وللإمارات، لكنها دول مهترئة من الداخل وفاقدة تماما للسيادة، والقرارات التي توقعها، يتم استلامها بشكل تعليمات امريكية او اسرائيلية، "تخرج" شكلا بشكل بيانات واتفاقات من تلك الدول، لكنها لا تصدر منها فعلا! والميل الى "تصديق الشكل" لدينا، يجعلنا نحلل بالأسئلة الخاطئة: ما مصلحة السعودية في كذا قرار، وما مصلحة العراق في كذا قرار.. إن "شكل الدولة" يشوش تفكيرنا فننطلق من أنها دولة بالفعل ولها مصالحها وقراراتها النابعة منها، فنضيع.
يرسل لي الكثير من الأصدقاء فيديوات طويلة ومقالات مفصلة حول تحليل الاتفاقية السعودية الإيرانية، وفي كل الحالات وبلا استثناء تقريبا، أجد تحليلا "عميقا" وكبير الجهد، لكنه يستند إلى ذلك الخلل الأساسي: معاملة دولة "شكلية" عميلة، وكأنها دولة حقيقية، والبحث في معادلات "مصالحها"! إن تلك التحليلات أشبه بالبنايات العالية الجميلة الهندسة، التي تقف على حجر هش! فهما كانت هندسته اللاحقة ممتازة فإنها لن تغير النتيجة والعمارة كلها محكومة بالسقوط! وهكذا فقيمة أي تحليل مهما كان معقدا ومنطقيا، تتحدد قبل كل شيء بانطلاقه من الأسئلة الصحيحة والعبارات الصحيحة وتحديد اللاعبين الحقيقيين بدقة قبل تحليل "مصالحهم".
فلا يوجد بروفسور في السياسية ومهما كانت عبقريته، يستطيع ان يقنعنا من خلال تحليل مصالح السعودية والإمارات، تفسير حربهما على اليمن وصرفهما المليارات ووضع أمنهم موضع الخطر، أو سباقهما المجنون بصرف مواردهما على شراء أسلحة لا يعرفون استعمالها، ودون ان تكون لهم أية اهداف حقيقية او مبادئ يسعون لها! لكن لا توجد أية صعوبة في تحليل ذلك وتفسيره بمصالح صانعي القرار في اميركا واسرائيل!
طبيعي أن هذا التقسيم لدول مستقلة واخرى عميلة، تقسيم مبسط، وهناك دائما مناطق وسطى، لكن بالنسبة لدول مثل العراق (بحكومته الحالية والسابقة) والسعودية والإمارات وأمثالها، فإن افتراضها عميلة بشكل شبه كامل، ليس خطأً كبيرا، ولن يسبب الكثير من الخطأ في التحليل.
الاستنتاج النهائي الذي اريد تلخيصه، اننا عندما نبدأ قراءة تحليل او نستمع الى "محلل سياسي"، علينا ان ننتبه أولا ونركز قبل كل شيء إن كان قد حدد "اللاعبين" بشكل صحيح ولم يكن بصدد تمرير "دولة شكلية" على أنها "لاعب حقيقي" ويتحدث عن مصالحها، ببساطة لأن "مصالح الدول الشكلية، لا قيمة لها لأن ليس لها من يمثلها، ولا تلعب دورا في مجريات الأمور ولا تحليلها"، ومن يرتكب هذا الخطأ في اساس التحليل، لن يبن أية "عمارة" قابلة للصمود، مهما بذل من جهد بعد ذلك، ولك ان تتوقف عن قراءته او سماعه، دون ان تخسر أي شيء!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق