سمعت مرة خطابا لرئيس امريكي كله أكاذيب مباشرة عن دور امريكا في "محاربة الارهاب" و "نشر الديمقراطية" و"تحقيق السلام في العالم" و "سيادة الشعوب على أوطانها وثرواتها".. الخ.
وبعد ان
افقت من الصدمة والعصبية من الكذب تساءلت: كيف يا ترى يكتب الساسة الأمريكان خطاباتهم؟
فتوصلت الى فكرة ممتازة، عملية وبسيطة: إنهم يكتبون الحقيقة عن الموضوع أولا، ثم
يقلبون كل شيء، فيكون لديهم خطاب سياسي ممتاز!
يعني
الرئيس يكتب اولا: نحن الإرهابيون في العالم والديمقراطية اخطر شيء علينا لأن جميع
الشعوب تكرهنا فإذا حكمت بلادها طردت عملاءنا ونحتاج الى اثارة الحروب في العالم
لبيع اسلحتنا وتمكين عملائنا من السلطة وان ثروات الارض كلها ملك لنا حتى ان
وضعتها صدفة غبية تحت اقدام تلك الشعوب.. الخ.
اقلب
هذه الحقائق، فيكون لديك خطاب امريكي رائع!
لماذا لا يحاولون محاولة اكثر تواضعا، مثل أن لا يذكروا الناس بإرهابهم بل يتجاوزوه.. ان يدعوا ان بعض ممارساتهم لقمع الديمقراطيات كانت "اخطاء" وتم تصحيحها، ان يعترفوا بأنهم لم يكونوا دائما مع السلام ثم يقولون: دعونا نبدأ من جديد ونحاول بناء عالم اقل حروبا.. الخ.
أليست هذه الطريقة اكثر اقناعا وسهولة بخداع المستمع؟
يبدو ان هذا ما يعتقده الطارئون على الإعلام، مثلي. أما من درس الإعلام وتأثيره النفسي فله رأي اخر. نحن نتخيل أن القارئ "يفز" من الكذبة ويشمئز من الكاذب وتكون النتيجة عكسية دائما. لكن تبين لا، ليس دائما، ولسببين:
الأول ان الإنسان يميل الى ان يقيس الآخرين بأخلاقه هو. وباعتباره مواطن اعتيادي، فهو يكذب احيانا ولكن ليس بشكل صفيق. لذلك حين تقول له ان اسقاط ديمقراطية شيلي كانت "خطأ"، او "دعونا نبدأ من جديد" فسيخطر بباله فورا انك تكذب! لأنه يمارس هذا المستوى "الخفيف" من الكذب.
لكن حينما يقول له رئيس امريكي "عين بعين" أن امريكا تدعم الديمقراطية، فسيشعر أنه لا بد أن فيها بعض الحقيقة! لماذا؟ لأنه شخصيا يستصعب ان يكذب بـ 180 درجة ويقلب الحقائق قلبا، لذلك، لن يصدقه تماما، بل سيقول: انهم لا يدعمون الديمقراطية "دائما"، فأنا اعرف امثلة كذا وكذا كانوا ضد الديمقراطية، لكن لا يعقل ان يكذبوا تماما، فأنا اصدق انهم يدعمون الديمقراطية احيانا ويقفون ضدها احيانا! وهكذا حقق الخطاب الانتصار النصفي، عن طريق الكذب بـ 180 درجة!
السبب الثاني لكفاءة الكذب بـ 180 درجة هو أن الإعلامي أو السياسي، يقف غالبا أمام مستمع تعبان وخائف ويبحث عن رائحة "أمل". وليس من السهل على مثل هذا ان يتقبل أن أكبر قوة في العالم مصممة على نهب كل ثروته وانها لا تتورع عن خلق الدواعش لتحقيق ذلك! إنها فكرة مرعبة! ومثلها فكرة أن الرجل الذي قدمته الجهات التي كانت تمثل المقاومة في العراق، شخص وضيع منبطح بشكل تام للأمريكان ويسعى لإبقاء قواتهم وسحب سلاح الحشد، وان كل ما فعله كان مسرحيات لتحقيق هذا الغرض، وان "المقاومين" ساكتين عنه جميعا! هل تم شراؤهم وابتزازهم جميعا؟؟؟ إنها فكرة مرعبة!
هذا الخوف من الحقائق الشديدة القسوة هو الذي سيقوم ب "إقناع" المستمع بالمستحيل. سيقوم بـ "استئصال" الحقائق المخيفة التي أرقته كثيرا، واقناعه (نفسيا وليس بالمنطق) بأن السوداني ليس منبطحا بشكل تام وكامل وانه يتجرأ أحيانا ليقول "لا" للسفيرة وأن البلد مازال يمتلك بعض سيادته على قراره ليتبع سياسة "متوازنة" ربما فيها مصلحته، وان عار قوات الإرهاب لن يكون أزليا، وان ما سمعه ورآه ليس سوى "حيل تكتيكية" من السوداني، ليطرد القوات الامريكية "في الوقت المناسب".
النتيجة ان المواطن سيشعر براحة غريبة وكأن هما قد زال عن صدره! وسيشعر بالميل الى متابعة هذا المتحدث "المريح". ورغم أنه إن كان من النوع الجيد الذاكرة والأمين المنطق، فقد يصطدم ببعض الحقائق العنيدة المتعبة مثل: كيف يكون الإقرار ببقاء القوات الى الأبد، "تكتيك لإخراجها"؟ ما هي حدودها، إذا كان وزير دفاعهم يخترق البلد بلا دعوة ولا اعلان ولا موعد ويسبب الاحراج والخزي لرئيس الحكومة امام شعبه؟ ما هي الحدود ان كان رئيس الحكومة يفاخر بجعل بلده ممرا لوجستيا لتلك القوات لغزو سوريا ونهب نفطها؟ وفوق ذلك يكذب بالقول أنها "تحارب الإرهاب" هناك!
في النهاية، اما ان تتغلب الأمانة المتعبة، او يتغلب الخوف، وعلى الأغلب سيتم "عقد اتفاق" وسطي بينهما. فلا يرفض كل الإدعاءات ولا يصدق كل الأكاذيب، ويبقى في دائرة الشك، مع ميل لتصديق ما هو مريح، فيقول لنفسه أنه ليس من المنطقي ان السفارة تمكنت من شراء جميع الشرفاء الذين اعرفهم، ومادام هؤلاء ساكتون و "يثقون" بالسوداني، فيمكنني ان "اثق" به واعتمد على الله واعطيه فرصة اضافية والزمن سيتكفل بكشف الحقائق، الخ من العبارات المهدئة للقلق.
وهكذا يحقق كذب ال 180 درجة، الغاية منه. وبالمناسبة فهذا الكذب من اختراع النازيين حيث ينسب لغوبلز (وزير اعلام هتلر) قوله: "أكذب واكذب واكذب حتى يصدقك الآخرون"، وتعلمها الأمريكان منه كما يبدو، وتعلمها طبالي الإطار من مشغليهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق