الثلاثاء، 8 يونيو 2021

ملحمة تمثال المنصور قد تعرفنا أكثر على بعضنا

صائب خليل

هل إصرار الشيعة على إزالة تمثال المنصور، مؤامرة فارسية على التاريخ العربي، كما يقول بعض السنة؟ أم ان دفاع السنة عنه له أساس طائفي ورغبة بأذى الشيعة ومشاعرهم؟

في هذه المقالة سأعارض هاتين الفكرتين واقدم تحليلي للسبب. والحق اني لم اكن راغبا في الدخول في هذا الموضوع لأنه على الأغلب فخ آخر لإلهاء الناس بإثارة جدل طائفي او غيره، لكني رأيت ان ملاحظة صغيرة حول هذا الموضوع قد تساعد في توضيح بعض المميزات والفروق في التربية الشيعية والسنية وتساعد على فهم كل جهة للأخرى.

بشكل عام، هناك خلافات وصراع على "الرموز" بين أية طائفتين يتعايشان معا، وهذه مفهومة تماما، إلا ان الخلاف على تمثال أبو جعفر المنصور مختلف. فعلى العكس من الخلافات الأخرى التي تتميز بالوضوح وبالخط الطائفي الفاصل بين الفريقين، مثل الخلاف حول صلاح الدين الأيوبي، فإن الخلاف حول أبي جعفر المنصور لا يمتلك خطا تاريخيا طائفيا واضحا. حيث ان المنصور في هوسه بالسلطة، سعى لتصفية كل من يتحداه اليها او يخشى ان ينافسه فيها فلم يتورع عن اغتيال اقرب اقاربه مبتدئاً بعمه عبد الله بن علي! إنه لا يقسم الناس الى "طائفتي" و "الطائفة الأخرى" وانما: "يتحدى سلطتي" و "لا يتحدى سلطتي". وهو في هذه النقطة يشبه صدام حسين، مع الفارق في الثقافة وفي الازدهار والعلم الذي ترك احدهما بلاده فيها والجهل والهزيمة والدمار الذي تركها الثاني فيها.

ما يهمني هنا ليس ادانة أو تبرئة أبو جعفر المنصور، بل الاستفادة من الحادثة لإلقاء الضوء على نقطة مهمة في الفرق بين شيعة العراق وسنته، وهو ما آمل ان يساعد كل من الجانبين ان يرى الآخر بشكل أوضح.

الشيعة يكرهون أبي جعفر لأنه قتل الإمام جعفر الصادق ومحمد ذو النفس الزكية وغيرهما من رموز الشيعة، إلا انه قتل أيضا الإمام أبو حنيفة، احد أهم رموز السنة في العراق، بل ربما اهمهم. فلماذا يبدو السنة ضد الهجمة الشيعية عليه؟ ألا يفترض ان يتوحدا في هذا الأمر؟

 

السر في ذلك هو ان الشيعة تربوا على انهم طائفة مظلومة لزمن طويل جدا، وفي هذا الكثير من الحقيقة. وبالتالي فإنهم ينظرون الى التاريخ من خلال تلك المظلومية. أما السنة فلم يكن الامر معهم بهذا الشكل، فلم تأخذ الاحداث قيمها بمدى التعرض لرموزهم. بل لا تكاد تكون للسنة، واتحدث عن العراق، اية رموز مذهبية خاصة، بل رموز إسلامية فقط. ولا ادل على ذلك من حقيقة ان تسميات "علي" و "حسين" و"حسن" اكثر من تسمية "عمر"! وهذا شيء لا يمكن تخيله بالنسبة للشيعة.

يجب ان لا يؤخذ هذا على انه امتداح للسنة على حساب الشيعة، انما هو الفرق الطبيعي بين طائفة تشعر بالظلم وتقلق على بقائها، مقابل طائفة لا يخطر ببالها هذا القلق. وربما بدأ مثل هذا الشعور بالتكون بعد احتلال العراق وارتفاع الصوت الطائفي من الجانبين.


لكن ان لم يكن هناك دافع طائفي للدفاع عن أبو جعفر المنصور، فما الذي يدفع بالسنة الى هذا الموقف؟

لقد درسنا أبو جعفر المنصور في المدرسة كخليفة عباسي له الفضل في بناء بغداد وبناء أساس علمي كبير. لم يخبرنا احد في المدرسة ان أبو جعفر المنصور قتل أبو حنيفة او جعفر الصادق! (أتذكر بالمناسبة، اني لم أوافق على حجج المعلم بالنسبة لقتل أبو جعفر لابو مسلم الخراساني، وشعرت بخيبة أمل واعتبرت المنصور في وقتها خائن للأمانة، وكان ذلك في الدراسة المتوسطة إن صحت ذاكرتي، لكن ليس اكثر من ذلك فليس لدي مشاعر خاصة لأبي مسلم)
لذلك فدفاع السني (ما لم يكن مجندا، وما اكثرهم اليوم) هو دفاع عن هذا التاريخ الذي قرأه، وليس لأي سبب طائفي، فلا يوجد سبب طائفي! الدفاع هو دفاع عن تاريخ نعتز به وجزء من تكويننا كتاريخ عربي إسلامي بلا أي اثر طائفي.

 

الإحساس بالظلم جعل الشيعة اكثر اعتزازا برموزهم من اعتزاز السنة برموزهم. الأولين يرون، وهم محقين، ان شخوص التاريخ يجب ان تقيم بمواقفها من رموزهم المظلومة مثلهم. أما السنة الذين لا يملكون هذا الدافع، فيحاججون أن تاريخ كل الأمم مليء بشخصيات كبيرة، كثيرة الأخطاء والخطايا. ولو اردنا مسح كل شخصية كبرى ارتكبت جريمة، خاصة بالمقاييس الحالية، فإننا سنمسي بدون تاريخ! وهم محقين أيضا. وهم يرون الأمم الأخرى تعتز بشخصياتها التي بنت تاريخها حتى تلك الإجرامية منها. فهولاكو بطل في منغوليا وليوبولد الثاني بطل في بلجيكا، وتاريخ بريطانيا وأميركا مليء بهؤلاء، رغم انهم سفاحين ووحوش. أنا لا أقول ان هذا صحيح، وادعو الى محاسبة تاريخنا، لكن رأيي اننا لا يجب ان نكون شديدي القسوة عليه ايضا، وإلا ضعنا رغم ان تاريخنا من اقل التواريخ قسوة بين الشعوب، حتى في حروبنا على غيرنا. فقد قال الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي لوبون "المسلمون ارحم الفاتحين في التاريخ"!

لو اخبرت هولنديا أن قائدا مهما في تاريخنا اغتصب زوجة احد جنوده بعد ان قتله، لما اعتبرها معلومة ذات قيمة كبيرة. ولكن أي طفل شيعي يعرف هذه الحادثة جيدا ويعرف اسم زوج المغتصبة ولا يعرف غيرها عن خالد بن الوليد (وهو احد اعظم القادة العسكريين في التاريخ). خالد بن الوليد لم يكن "سنيا".. فلم يكن هناك سنة في وقتها، بل ان من حاسبه كان من اهم الرموز المحسوبة على السنة. خالد كان ضمن التاريخ الإسلامي الذي يعامل بقسوة. ولا اعتقد ان هناك شيعيا لا يوافقني بأن الكراهية الحقيقية لخالد والقسوة عليه، تعود الى موقفه من الإمام علي وليس بالدرجة الأولى لجريمة الاغتصاب، رغم انها هي التي تقدم دائما كسبب.

 

هل ننسى إذن جرائم أبو جعفر المنصور وخالد بن الوليد لنحافظ على تاريخنا؟ هل نمحو تلك الاحداث من التاريخ؟ لا طبعا، فليس ذلك من الاخلاق، ولا نريد ان نزور اعتزازا بشخوص ارتكبت جرائم فنهبط بمقاييسنا الأخلاقية بشكل مدمر. اعتقد ان الشيء المناسب هو إعطائها حجما تستحقه لا اكثر، فنعطي للشخصية التاريخية حقها من الخير والشر. فنحكي لطلابنا ان خالد بن الوليد كان قائدا عسكريا عظيما، لكنه لم يكن عالي الأخلاق (ونذكر الحادثة). ونقول ان المنصور قد بنى بغداد وبيت الحكمة واسس انطلاق العلوم الإسلامية وفضائل أخرى، لكنه كان مهووسا بالحكم ارتكب جرائم عديدة في سبيله، ونعدد ضحاياه وقيمتهم العالية ونتحدث عنهم ونترك القارئ ليحكم.

 

يمكنني ان أقول ان الاعتراضات الشيعية على التاريخ الإسلامي، قد نبهني الى الجانب الأخلاقي من ابطال هذا التاريخ، واجبرنا على دراسته، فلم ندرسه في المدارس. وهذه إضافة مهمة إلى وعي هذا التاريخ، ولكيلا يكون مشوها باللون الوردي الساذج. لكن من الناحية الأخرى، فسيكون التاريخ اشد تشوها، إن لم يعرف الأطفال عن المنصور سوى انه اغتال الإمام جعفر الصادق، وان خالد بن الوليد قد اغتصب زوجة احد جنوده.

الشيء المهم الذي يمكن ان نستفيد منه من ظاهرة أبو جعفر المنصور، هو ان يفهم السنة لماذا يهتم الشيعة كل هذا الاهتمام برموزهم. وان يستبعدوا الفكرة السخيفة ان الأمر "مؤامرة فارسية" على العرب والتاريخ العربي. ومن ناحية أخرى ان يفهم الشيعة ان سبب مقاومة السنة لاحتجاجاتهم لا تعود بالضرورة الى مواقف طائفية، بل هو قلق على التاريخ من ان يعاد تقييمه على أسس طائفية. إن فهم الطرفين دوافع الآخر مفيد جدا بتوضيح الأمور وإعطاء فرص التفاهم والاتفاق، وإعادة الكرة الى المباراة الوطنية (بين الوطن والاحتلال) وليس المباراة الطائفية.

هناك 3 تعليقات:

  1. كلام راقي وهو يتحدث عن واقع عاشتهوا اجيال قبلنا وعشناه نحن وسيعيشه اجيال بعدنا

    ردحذف
  2. نشر في غاية الروعه

    ردحذف