الأحد، 2 مايو 2021

"العروة الوثقى" – الحقائق التي تساعد على التماسك في اعصار الإعلام المعادي

صائب خليل

أحرص دائما على التقاط مجموعة قليلة نسبيا من الحقائق الأساسية حين أقرأ، وأن احفظها واتذكرها وأنا أبحر في المناقشات، واستفيد منها كثيرا جداً، وانصح أصدقائي بقوة أن يفعلوا مثلي. ففي هذا التسونامي من المعلومات الذي نعيش فيه، خاصة المتعمدة التضليل والتشويش بعبقرية، فإننا نحتاج الى شيء بسيط نستطيع تذكره، ونثبته في ذاكرتنا، لنعود اليه ونحكم بمساعدته على أية فكرة تمر بنا او تحليل يطرح، وان كان فيه تناقض ام لا.
هذه الحقائق اسميها حقائق "العروة الوثقى". حقائق أكيدة من جهة، وكبيرة المعنى من الجهة الأخرى، وتشع اضاءة على موضوعها فتنير الطريق السليم. انها الحقائق التي ان تمسك الانسان بها فلن يضيع في النقاش والحكم على الآراء.
.
في هذه المقالة سأشرح طبيعة هذه الحقائق وكيفية الاستفادة منها كأداة رائعة وكفوءة، والطرق المستعملة لمحاربتها من قبل اعلام التشويش. وسوف استخدم إحدى تلك الحقائق كمثال للشرح، والتي استخدمها انا كثيرا، حقيقة "خلق ودعم اميركا لداعش"، والتي تبرهن بشكل لا جدال فيه ان الهدف النهائي لأميركا في العراق، هو تدميره بشكل تام!
.
هذه الحقيقة تفند بعض الآراء مباشرة: فلو طرح شخص امامك، سواء وجها لوجه او في مناقشة تلفزيونية، فكرة "اننا نحتاج اميركا لتدريب قواتنا". تعود بذهنك الى حقيقة "العروة الوثقى" وتسأل: هل يمكن لدولة تدخل داعش الى بلد وتدعمها، أن تدرب جيشه لقتالها؟ ستجد التناقض واضحا وبسيطا، ويمكنك بكل ثقة ان تميز زيف فكرة ان "اميركا هنا لتدريب قواتنا"، حتى لو لم تكن تكره اميركا.
.
ويمكنك ان تتوسع في استخدامها. فعندما يناقش مبدأ اقتصادي تسعى اميركا الى فرضه في العراق، يمكن ان تسأل نفسك أيضا ان كان ممكنا لمن يريد لداعش ان تحكم البلد، ان يريد في نفس الوقت قيادتها الى نظام اقتصادي ينفعها؟ والجواب ايضاً بالنفي، فالحقيقتان متناقضتان. وبما ان حقيقة "العروة الوثقى" مؤكدة بأدلة كثيرة قوية واكيدة، فلا بد ان "الحقيقة" الثانية خطأ. هكذا يمكنك ان تستنتج ان الخصخصة والليبرالية والدعم الاعتباطي للقطاع الخاص وتدمير القطاع العام، كلها سياسات مدمرة لاقتصاد البلد، لأنها فقط في هذه الحالة تنسجم من حقيقة "العروة الوثقى".
إذا دعمت اميركا شخصا لحكم البلاد، هل يمكن ان يكون مخلصا للبلد؟ بنفس الطريقة الجواب "لا".
.
بل ابعد من ذلك، إذا دعمت اميركا شخصا لحكم البلد، فهو ليس فقط "غير مخلص للبلد، وانما أيضا هو الشخص الذي يستطيع أن يحقق لها أكبر تدمير ممكن للبلد في تلك اللحظة، وهو هدفها الذي كشفته حقيقة "العروة الوثقى". فأي اختيار آخر لن ينسجم معها، ومن الصعب ان نفترض ان اميركا تتبع سياسة تناقض ما تريد. لذلك فهي عندما جاءت بالعبادي في مؤامرة في الغرف المظلمة، لا بد ان العبادي كان يمثل في تقدير السفارة، الشخص الذي تستطيع من خلاله إنزال أكبر تدمير ممكن في البلد، "في ذلك الظرف"!
وملاحظة "في ذلك الظرف" تعني انه من المؤكد ان لديها عملاء أكثر اخلاصا وطاعة، لكن ربما لم تكن تستطيع توليتهم الحكم، او ان رد فعل قد يحدث ويعرقل وصولها لأهدافها.
.
وبنفس الطريقة فأن عادل عبد المهدي كان الاختيار التالي الأنسب للتدمير التالي (دفع الابتزاز الكردستاني للعراق خطوة كبيرة أخرى الى الامام، توقيع اتفاقات تجارية مع الأردن لتمرير بضاعة اسريلية ودعم حكومتها العميلة، تدمير السوق العراقية، توقيع الكثير من القروض، تنفيذ قانون شركة النفط الوطنية الذي كان عبد المهدي عرابه الأول، او قانون مشابه بديل.. الخ.) وربما فضل عبد المهدي في نهاية حكمه، الانسحاب من دوره بعد ان رأى انه لم يعد له مصلحة له بالاستمرار فيه.
.
وأخيرا صار بالإمكان تنصيب عميل صريح ومباشر وبليد، مطيع حتى النهاية لا يعترض حتى على المهمات التي قد تتسبب في نهايته. كذلك فهو ممسوك من رقبته بتهم يمكن بكشفها ان تكلفه رقبته كسرقة أرشيف الدولة الأمني وتهريبه إلى أميركا. إضافة الى ذلك، ان مجرد تزعمه البلاد هو عامل إهانة واحباط للشعب العراقي، وهذا مفيد في سوق هذا الشعب الى "التطبيع" والذي هو من الأهداف الأساسية للاحتلال، إضافة الى التدمير المباشر.

وهكذا بالرجوع الى حقيقة "العروة الوثقى" يمكننا الإجابة بثقة عالية عن مختلف الأسئلة، مثل:

"هل يمكن لتظاهرات تدعمها اميركا (حقاً) ان تكون في صالح البلاد؟"
"هل يمكن لنظام انتخابي تختاره اميركا (إن كان لها ان تختار بحرية) لصالح البلاد؟"
"هل يمكن ان تمارس اميركا ضغطها مثلا ليأتي الى البلاد ممثل شريف من الأمم المتحدة؟"
"هل يمكن لنظام مصرفي تضعه اميركا ان يكون المناسب لنهضة البلاد؟"
"هل يمكن لوسيلة اعلام، او منظمة لحقوق الانسان، تدعمها اميركا او تمولها، ان تنشر الحقائق؟"
"هل يمكن ان تكون لنا علاقة مفيدة مع دولة تابعة تماما لأميركا (مثل السعودية ودول الخليج عموما)؟"
"هل يمكن لاتفاقية مع اميركا ان تكون مفيدة للبلد؟"
"هل يمكن لتوصيات مؤسسة مالية تابعة لأميركا (مثل صندوق النقد الدولي او البنك الدولي) ان تكون لصالح البلد؟"
"هل يمكن ان تقدم هذه المؤسسات قروضا لصالح البلد؟"
"هل يمكن لضابط كبير له علاقة جيدة مع اميركا، ان لا يكون عميلا لها؟"
"هل يمكن ان توصي اميركا توصية إيجابية بأحد سجنائها في سجن بوكا وتطلق سراحه، دون ان يكون عميلا لها؟"
"هل يمكن ان تصرف اميركا عشرات الملايين كل شهر على موظفي سفارتها، لشيء غير هدفها بتدمير البلد؟"
"هل يمكن ان يتواجد الجيش الأمريكي في البلاد، لخدمة البلاد وليس لتدميرها؟"
"هل يمكن لبلدان تخضع لنفوذ اميركا ان تقيم مؤتمرا للتبرع للعراق بنية دعمه فعلا؟"

الخ من الأسئلة الكثيرة التي يمكن ان تلقي حقيقة "العروة الوثقى" عليها ضوءا مفيدا جدا.
.
وهنا يجب إضافة بعض الملاحظات.
.
1- ان حقيقة "العروة الوثقى" لا تعطيك الأجوبة على كل شيء، ولا تستطيع دائما ان تثبت صحة كل رد توحي به، لكنها تؤشر مؤشرا قويا الى حيث الحقيقة، فتوفر عليك ضياعا كثيرا للوقت والخطأ في البحث.
.
2- طبيعي انه من الممكن ان يكون التناقض بين الحقيقة المطروحة وحقيقة "العروة الوثقى"، تناقضا ظاهريا، حين تتصرف اميركا مثلا بشكل مخالف لأهدافها مؤقتاً، فتدعم جهة وطنية، او تبدأ بكتابة دستور جيد نسبيا للبلاد او ان لا تفرض في البداية اية ضغوط على المنظمات التي تمولها. لكن هذه ليست سوى مرحلة أولية لبناء الثقة او تجاوز فترة معينة، وهي جزء من خطة التدمير العامة، حتى لو بدا انها تناقضها في الاتجاه في تلك المرحلة، وبالتالي فلا يوجد تناقض حقيقي في التصرف الأمريكي مع حقيقة "العروة الوثقى" هنا، بل هو تناقض مرحلي للتغطية، وبالتالي جزء من الخطة. مثلا موقع "الحوار المتمدن" الذي تبين انه يعمل لإسريل، كان في البداية ينشر بحق مقالات يسارية وشيوعية مؤثرة. ومؤسسة المدى المعروفة بتبعيتها الامريكية، طبعت ونشرت عددا من كتب جومسكي، وهكذا.
.
3- في بعض الأحيان لا تستطيع أميركا ان تتحرك مباشرة الى هدفها (التدمير) فتكتفي بنصف الهدف مؤقتا، وبالتالي ممكن ان تقدم دستوراً "معقولا" بنية عدم الالتزام به، أو تقبل شخصا لحكم البلاد لا يمثل طموحها، حتى تجد الفرصة لتغييره بما يناسبها، او تفشل في فرض ممثل للأمم المتحدة في العراق بما يروق لها، لتتحمله فترة او تغتاله كما حدث لسيرجيو فيرا دي ميلو، وكذلك بالنسبة لبعض الضباط الشرفاء، حتى تأتي الفرصة والضرورة للتعامل معهم والتخلص مما يمثلونه من تناقض مع خطتها الأساسية في التدمير.
.
4- في حالات معينة، تجد تناقضاً صارخاً بين الحقيقة على الأرض وحقيقة "العروة الوثقى"، لكن ذلك يعود لنقص المعلومات التي لديك. مثلا لم يكن مفهوما التناقض بين ان تسمح اميركا بوصول الكتلة الأكثر عدائية لها الى أكبر الأصوات في الانتخابات الأخيرة، التي قامت بتزويرها بشكل لم يسبق له مثيل وتخلصت بها من أزعج النواب بالنسبة لها. لكن تبين فيما بعد ان تصورنا عن تلك الكتلة لم يكن في محله، وان لا تناقض هناك، فالفتح لم تعترض على تنصيب أحد اشد عملائها على العراق، ولم تعترض على أي من تصرفاته المدمرة. فما بدا لنا على انه تناقض، لم يكن الا نقص في المعلومات لدينا، فمن الواضح الآن ان تلك الكتلة مخترقة بشكل لم يكن ممكنا تخيله، وأن أمريكا كانت مطمئنة أن لديها ما يكفي من أوراق للضغط عليها، وبالتالي لا ضرر من وجودها في مجلس النواب، بل هو مفيد للاحتلال، حيث انه يدفع بالمواطن الى اليأس أكثر حين يرى من كان يعول عليهم يشتركون في المؤامرة عليه.
.
5- "العروة الوثقى" تخدمك لفهم ما يجري ولتقييم شخصي للآراء، لكنها لا تكفي لبرهان رأيك ودحض رأي المقابل وإن كانت تساعد كثيراً على البحث عن برهان. فلا تستطيع ان تقنع الكثيرين ان الضابط الفلاني عميل لأميركا، لمجرد الإشارة الى حقيقة ان اميركا جاءت به، وحقيقة انها هي من جاءت بداعش، رغم انه مؤشر قوي جدا. ليست اثباتا، لكن جمع الحقيقتين ينبه ويؤشر ويدفع للبحث عن الأدلة.
.
6- إن لم تكن الاستنتاجات من "العروة الوثقى" كلها صحيحة، فلا شك ان 90% منها صحيح، وان الخط العام المستنتج منها صحيح تماما، حتى تتغير "العروة الوثقى" ولا تعود حقيقة موثوقة، كأن يتغير النظام في أميركا وأهدافه، أو تفقد قدراتها القديمة او تزيد، فتتغير الخطط والنوايا. لكن هذا كما هو واضح، امر مستبعد لفترة طويلة من الزمن، وحتى ذلك الحين تبقى تلك الحقيقة تخدمك لفهم ما يجري.
.
7- حقائق "العروة الوثقى" تخدم كنقطة انطلاق للتفكير بالموضوع. فبدلا من ان تبدأ حائرا لا تدري كيف تفكر وتقيم مسألة ما وأين تبدأ به، فأن لديك حقيقة جاهزة يمكنك ان تبدأ منها مقارنتك مع الاحداث، ثم تستمر في المناقشة والتفكير والاستنتاج، فتكسر الحاجز الأول لبدء التفكير والمناقشة.
.
8- لأهميتها القصوى، فان حقائق "العروة الوثقى" هدف لهجمات الاعلام المعادي. فمثلما تريد انت ان تبقى تلك الحقيقة ماثلة في ذهنك، يريد الاعلام المعادي القضاء عليها ودفنها في النسيان. ولتحقيق ذلك، فإنه يلجأ الى طرق غير مباشرة وخفية عن الوعي. فيمكنك ان ترى جدلا حادا عن "فشل اميركا في تحقيق الديمقراطية في العراق" أو "عدم الجدية في محاربة الفساد" او ان "اميركا سلمت العراق الى إيران". وقد ينتهي النقاش الى انتصار الجانب الذي يبدو انه يقف ضد اميركا ويتهمها بالفشل او "عدم الجدية"، وتتصور أنك ترى شخصا وطنيا غاضب مما فعلته اميركا لبلده. لكنك في الحقيقة تكون قد تعرضت توا لعملية غسيل دماغ تهدف الى دفن حقيقة "العروة الوثقى" وجعلك تنساها. فمجرد اتهام اميركا بـ "الفشل في تحقيق الديمقراطية" فيه "ايحاء ضمني" انها كانت "تريد تحقيق الديمقراطية" لكنها فشلت! و "عدم الجدية" تعني ان هناك "رغبة اكيدة لكن ليست قوية" بما يكفي لمحاربة الفساد! هذه الفرضيات تمر خلسة الى لا-وعيك وذاكرتك وتترك انطباعها عليهما. ولماذا "خلسة"؟ لأنها ببساطة سهلة التفنيد لو ذكرت بشكل صريح، فهي تناقض حقيقة "العروة الوثقى". فمن يريد التدمير لا "يحاول" تحقيق الديمقراطية او محاربة الفساد، او تسليم البلد الى إيران!
وبتجميع وتراكم كل تلك الايحاءات الإعلامية المناقضة لحقيقة "العروة الوثقى"، فتضعف وتضيع تلك الحقيقة وتدفن وتنسى، ويحقق الاعلام خطته المرسومة.
.
أخيرا أقول إن تلك "العروة الوثقى" بعلاقة اميركا بداعش ترشدنا الى ان العلاقة الوحيدة الجيدة مع اميركا هي، تماما مثل العلاقة مع داعش، بطردها من البلد (بأكثر ما يمكن!). ان لا يكون في بلدنا جندي واحد منها، ان لا نشتري اي سلاح منها ان أمكن، (ربما حتى لو دفعنا ثمنه!) لا تدريب، لا سفارة ان أمكن.. لا شيء حتى يتغير النظام الذي يجعلها هراوة بيد من يريد تحطيم هذا البلد، ويخترع الدواعش من اجل ذلك ويدعمهم ويقصف من يقاتلهم!
.
جرب ان تعود عيناك على البحث عن حقائق "العروة الوثقى" لكل موضوع أساسي وان تتذكرها وتحميها من النسيان والتضليل الإعلامي، وأن تأخذها معك الى اي نقاش، او حين تشاهد حديثا تلفزيونيا، وستكتشف كم تكشف لك هذه الحقيقة من مجندين وغشاشين وسطحيين يسهل احراجهم. جرب ان تتدرب على استخدامها للتفكير والتقييم والحكم والمناقشة، فهي ليست مفيدة فقط، بل ممتعة أيضا.
في مقالات قادمة سوف احدثكم عن حقائق "عروة وثقى" أخرى استخدمها، فربما تجدونها مفيدة لكم أيضا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق