ينتظر العالم
بترقب بدء المعركة بين أميركا وإيران، أو بالأحرى "المرحلة العسكرية" من
المعركة، لان المعركة بمعناها الشامل قد بدأت بالفعل، ان لم نقل انها كانت ومستمرة
منذ الثورة الإيرانية. فما هو طريق ايران للانتصار في هذ المعركة غير المتوازنة
على الإطلاق؟ هل هناك أمل لإيران؟ الا تستطيع اميركا ان تمحو إيران من الخارطة
ببضعة قنابل ذرية؟ هل يمكن الحديث عن "الانتصار" على دولة تمتلك نصف
القوة العسكرية في العالم، وتتحالف مع بعض أكبر الدول المالكة لمعظم النصف الآخر
من تلك القوة، أم انها مجرد امنيات ومكابرة وشعارات؟
هذه التساؤلات
تعود بنا الى السؤال العام: كيف تقف بوجه قوة أكبر منك؟ والذي هو عنوان مقالة
سابقة لي طرحت فيها هذه النقاط، واقترح قراءتها قبل الاستمرار هنا (1)،
لكني سألخص ما جاء فيها على كل حال.
تبدأ المقالة
بالقصة التالية التي تشرح المبدأ:
يوما سألت أبي: بابا
هل الكلب اقوى من الذئب؟
لا بابا.. الذئب
اقوى بكثير.
إذن كيف يحمي كلب
واحد قطيعا من الخراف من الذئب؟
الذئب يستطيع ان
يقتل الكلب بسهولة، لكنه يخشى ان يعضه الكلب ويجرحه قبل ان يستطيع قتله. فالذئب
يعلم ان جماعته سيقتلونه ويأكلونه إن رأوه مجروحا، او أن يصاب بعرج من جراء
المعركة، ولا يستطيع الصيد بعدها.
ما هي
"الاستراتيجية" التي يتبعها هذا الكلب الوفي، في موقفه الشجاع والمحسوب
في نفس الوقت؟ وكيف يستخدم الطرف الأضعف تلك الاستراتيجية للانتصار على الأقوى؟
الجواب يعتمد على
تعريفنا لـ "الانتصار"! وهذا ليس مجرد قضية لفظية. فـ
"الانتصار" في أية معركة هو ان تحقق فيها اهدافك التي تطمح اليها، وهذا
ينطبق على طرفي “الصراع”.
فالتصور الأولي
البسيط للصراع: الكلب يريد قتل الذئب والذئب يريد قتل الكلب، ليس صحيحاً، وهو ناتج
عن نظرة خارجية ساذجة يعرف كل من الكلب والذئب انها خطأ كبير. فما هو تعريف كلب
الحراسة لـ "الانتصار"، وما هو تعريف الذئب له؟
الانتصار بالنسبة
للكلب هو: "منع الذئب من أكل أي خروف"، وانتصار الذئب هو: الحصول على
خروف - ودون ان يجرح! فأي انتصار هذا اذا كان الذئب قد حصل على خروف وبقي يعرج
بقية حياته، التي لن تطول، حتى لو كان قد قتل الكلب؟
خوف الأقوى من
"الجرح" هو السر الكبير يجعل "انتصار" الأضعف ممكناً، وهو ما
يجعله، إن أدرك هذه الحقيقة، اكثر جرأة وتحدياً.
لأخذ مثال آخر
للتوضيح في تلك المقالة اشرت الى لعبة "الشطرنج الثلاثي"، والتي تختلف
عن الشطرنج الاعتيادي (الثنائي) بمبدأ مهم جداً. ففي الشطرنج الاعتيادي تكون
سعيداً ان اخذت رخ الرسيل الذي يعادل 5 نقاط حتى ان خسرت فيلا (يعادل 3 نقاط)،
لأنك تخرج من المناورة وقد تفوقت على خصمك بنقطتين. أما إن حدث هذا في الشطرنج
الثلاثي فسيكون لدينا لاعب خسر خمسة نقاط وآخر ثلاثة نقاط وهناك ثالث لم يخسر شيء!
الثالث هو الرابح هنا وليس الذي قتل رخ الخصم بتضحيته بفيله!
فإذا قارنا الأمر
مع مثال كلب الراعي والذئب، وشبهنا خسارة الرخ بموت الكلب، فيمكننا تشبيه خسارة الفيل
بأنه "جرح" للذئب.. فمن هو اللاعب الثالث في ذلك المثال؟ إنه "بقية
العالم" الذي يتكون من الذئاب الأخرى، والطرائد الأخرى، وكلها سوف تتفوق على
الذئب الجريح في المواجهات القادمة. لا يمكن للذئب الجريح أن يسعد إذن بـ
"انتصاره" الفارغ في هذه الحالة، لذلك فهو يدير وجهه ويهرب عادة، لأنه
يدرك ان احتمال خسارة اكبر احتمال خطير. ولا يحاول الكلب الإصرار على المعركة بعد
ذلك، ولن يحاول قتل الذئب، فقد حقق "انتصاره" وفق تعريفه هو، وليس التعريف
المعتاد الساذج.
الذئب والكلب في
صراعهما لا ينسيان مبدأ تجنب الأقوى للجرح، ووجود "اللاعب الثالث" مثلما
ننساه نحن عادة حين نستنتج أن الأقوى لابد ان يكسب المعركة. انهما لا ينسيان أن
وراء كل منهما "حياة" يجب ان يستمر بها بشكل سليم ويواجه تحديات اخرى وأن
هذه المعركة ليست نهاية العالم.
التاريخ يحتوي
دروساً قاسية لمن ينسى ذلك المبدأ. فبعد حربين أوروبيتين (عالميتين) خسرت كل
الأطراف الأساسية (الأوروبية) صدارتها للعالم، وتركت الانتصار لـ "اللاعب
الثالث" – اميركا، التي لم تدخل الحربين إلا في وقت متأخر لجمع المكاسب. لقد
اعتاد الأوروبيون أن يتحاربوا دون ان يخشوا منتصراً ثالثاً لأنه لم يكن هناك هذا
الثالث في عالمهم، ولم ينتبهوا إلى تغير المقاييس بتقدم اميركا كمتحد آخر.
يمكننا ان نفهم
بقية التحديات في العالم على ضوء هذا الشرح، مثل التحديات بين روسيا وأميركا أو
كوريا الشمالية وأميركا، وحتى كوبا وأميركا وفنزويلا وأميركا الخ. اميركا اقوى من
كل هؤلاء مجتمعين، ولو كانت القضية قضية حياة أو موت بالنسبة لأطراف هذه التحديات،
لما كان هناك شك ان اميركا ستكون المنتصر. لكنها ليست معركة حياة أو موت، بل معارك
"مصالح محسوبة"، ولا تريد أميركا ان تدخل معركة تخرج منها أضعف مما كانت
قبلها لمواجهة بقية التحديات. هذا ما يعلمه الكوبيون والفنزويليون والروس جيداً،
وهو ما يتيح لهم التحدي والثبات.
بنفس هذه الطريقة
تحسب الولايات المتحدة أو إسرائيل، أنها ان دخلت في مواجهة مع ايران، فعليها ليس
فقط ان تنتصر، وانما أيضا ان تنتصر بدون "جرح"، بدون خسائر تجعلها اضعف
بعد المعركة مما كانت قبلها، وإلا يكون دخول المعركة حماقة.
إيران تدرك ذلك
طبعا، وهي بتهديداتها، لا تحاول حقاً بان تفهم اميركا وإسرائيل انهما ستهزمان
بالمعنى العسكري وحساب الخسائر المباشرة، حتى لو بدا الخطاب كذلك، لكنها تسعى من
خلال تهديداتها، أن تفهم أمريكا وإسرائيل أن تلك المعركة “ستكلفهما اكثر مما
تنفعهما”، بعد تصفية كل الحسابات. وهي
تعلم أنهما يفهمان الأمر وأن ذلك سيكفي لردعهما عن المعركة. وعلى قدر ثقة إيران
بأن لديها ما يكفي من القوة لإصابة القوة المهاجمة بـ "جرح"، تكون ثقتها
بأن أميركا وإسرائيل لن تهاجما، رغم تفوقهما الهائل في القوة. ويمكننا ان نرد تأكيدات
السيد الخامنئي واطراف أخرى في إيران، وكذلك السيد نصر الله، بأنه لن تكون هناك
معركة!
هناك ملاحظة
إضافية مهمة في حالة معركة أميركا وإيران، وهي ان مركز القرار الحقيقي بشأن
المعركة من الجانب الأمريكي ليس في واشنطن بل هو بشكل اكبر في تل ابيب. نعم، اميركا
ليست دولة مستقلة الإرادة عن القرار الإسرائيلي، وبذلك يشملها تحليل الدول التابعة
بدرجة ما.
الاختلاف الأساسي
الذي يجب التعامل معه بالنسبة للدول التابعة، هو ان ميزان الخسارة والربح فيها
يختل. فهذا الميزان يقاس من مصدر القرار فقط. فإن كان القرار الأمريكي اسرائيلياً،
فأن إسرائيل ستحسب عند إصدارها القرار، ربحها هي وخسارتها هي، وليس ربح وخسارة
اميركا نفسها. وهذان وإن كانا يتوافقان كثيراً فهما يختلفان احياناً كثيرة أخرى.
وينطبق هذا المبدأ
على جميع الدول غير كاملة الاستقلال في قرارها، وهو ما يجعل حساب
"المصالح" اكثر صعوبة. فمثلاً لا توجد اية مصلحة سعودية في عدوانها على
اليمن او معاداة ايران أو زيادة ضخ النفط لخفض أسعاره أو شراء كميات مهولة من
الأسلحة في صفقات وهمية يتم الدفع فيها فقط بلا بضاعة. وكذلك لا نستطيع ان نتخيل
أية مصلحة أمريكية في نقل السفارة إلى القدس أو قطع المساعدات للسلطة الفلسطينية، حتى
لو حسبنا المصلحة بشكل نفعي لا أخلاقي.
ومن هنا فأن إستراتيجية
الردع الإيراني للقرار الأمريكي عن الحرب تختلف عما لو كانت اميركا مستقلة القرار.
ويجب على إيران في رأيي ان تركز على ان يكون قرار الحرب “مكلفاً لإسرائيل” أكثر من
فائدته لها، وليس لأميركا. ويجب ان يصبح هذا الأمر واضحاً لإسرائيل قبل اشتعال تلك
الحرب.
إسرائيل بلد
يعتمد على أمنه، وأي اضطراب جدي فيه، قد يسبب "جرحا" لا يسهل معالجته.
كذلك ليس من الضروري لخسائر إسرائيل ان تكون عسكرية مباشرة فقط. فلو تمكنت إيران
من ان تكشف للشعب الأمريكي مدى الخطورة التي تشكلها إسرائيل على مصالحه، وعلى حياة
الجنود الأمريكان، وتفضح تبعية حكومات أميركا لإسرائيل بشكل أكبر، فأن هذا سيكلف
إسرائيل الكثير أيضاً، وبدون إطلاق نار.
هذا يكشف لنا
أهمية الإعلام لردع الهجوم، ولهذا السبب يتوجب على كل بلد أن يمتلك "قبة
صاروخية إعلامية" تتكون من الفضائيات والاقمار الصناعية وغيرها، قادرة على ان
تصل الى مواطن الدولة الأقوى العدوانية، أي المواطن الأمريكي في هذه الحالة. فالقرار
الأمريكي رغم تبعيته لإسرائيل، فهو غير ممكن مع وجود وعي شعبي كبير ضده، وهذا ما
تختلف به اميركا عن السعودية مثلا. والمواطن الأمريكي هدف ممتاز. فهو مخدوع بأن
حكوماته "تفعل الخير" للآخرين، كما أنه مخدوع بأن إسرائيل ضحية مهددة.
هذا يجعل المواطن هدفاً ممتازاً لإعلام قوي علمي رصين، لأن ايقاظه من هذه الغفلة،
رغم صعوبته، اسهل كثيراً من التأثير في شعب يعرف شر حكومته ويقبله، ويعرف تبعيتها
لإسرائيل في عدوانيتها ويقبله. ففي هذه الحالة يجب اقناع الشعب بأنه مهدد بالخطر
بالفعل أو ان يتم تغيير اخلاقيته، وهذه مهمة تعجيزية. إذن نجاح ايران وانتصارها - المتمثل
بالخروج من المواجهة بدون تقديم تنازلات وبدون مواجهة عسكرية- يتحدد بشكل شبه تام
بإقناع إسرائيل بأنها ستخسر في تلك المواجهة اكثر مما تربح، وأن تكون تلك الخسائر
على جميع الأصعدة الممكنة – عسكريا وإعلاميا، وموجهة إلى كل من إسرائيل والشعب
الأمريكي.
وما دمنا بذكر
الإعلام، فلا بأس ان نتفحص الاستراتيجية الإعلامية لأميركا وإسرائيل في هذه الحرب،
وخاصة تلك الموجهة الى الشعب الإيراني والعربي. ونلاحظ قبل كل شيء أن تلك
الاستراتيجية تحاول أن تشوش على القارئ او المشاهد فكرة "الردع عن طريق
الجرح"، وتصوير الأمر بالشكل المبسط الساذج، بمقارنة القوتان ببساطة والاستنتاج
ان الهزيمة الماحقة أمر مؤكد. لا غرابة في ذلك لأنها الطريقة الأنسب لإصابة الأضعف
بالرعب وتشجيعه على التراجع والتنازل.
ونجد الأقلام المعروفة بدعمها للاحتلال الأمريكي وإسرائيل تنتهج هذا النهج بشكل
عام، مثل مقالات عبد الخالق حسين عموماً، وكذلك هذه المقالة على سبيل المثال
للكاتب عبد الجبار
الجبوري: "ماذا قال بومبيو لعبد المهدي؟" (2)
ما هو تأثير
تقديم تنازلات إيرانية على هذه المعادلات؟
مما لا شك فيه أن
هذه التنازلات قد تسهم (وأكرر: قد) في تغيير ميزان المنافع والخسائر، باتجاه ردع
العدوان العسكري الذي ستقل منافعه المتوقعة. فإن تنازلت إيران عن دعم حزب الله
وسوريا، فستختفي أهم المنافع المتوقعة من الحرب، وينخفض الإغراء بخوضها ويرتفع
ميزان فوائد تجنبها لدى إسرائيل. لكن تلك التنازلات التي تساعد على ردع العدوان
الآني، ستضع إيران لاحقاً في موقع اضعف عسكريا ومعنوياً، وهذا سيشجع إسرائيل على
المزيد من الابتزاز في المستقبل القريب. ابتزاز لن يتوقف ابداً حتى تنتهي
الجمهورية الإسلامية في إيران. لذلك ربما يكون الأسلم والآمن لإيران إن كانت تنوي
الحفاظ على إسلامية جمهوريتها، ان تقف حيث هي لا تتزحزح شعرة الى الوراء، وأن
تحاول الردع بزيادة تكاليف الحرب على إسرائيل قدر الإمكان، وليس بتقديم التنازلات.
ماذا عن العراق
الذي يرزح تحت نير الاحتلال الأمريكي الإسرائيلي؟ الفكرة الأساسية هي ذاتها. إن
أراد العراق ان يتحرر ويفلت من المصير الذي يخطط له ولبلده من قبل دولة شديدة
العدوانية معلنة الأطماع في ارضه وثرواته، فعلى خندق المقاومة فيه ان يجد الطرق
الممكنة ليجعل هذا الاحتلال مكلفاً لإسرائيل وأميركا، بحيث يكون اكثر كلفة من
استفادتها منه.
من تلك الطرق جعل
المتعاونين مع أميركا غير قادرين على العمل بمقاطعتهم ومعاقبتهم ولو معاقبة
اجتماعية، سواء كانوا سياسيين أو إعلاميين أو عسكريين، وتشكيل قوة ضغط شعبية
باتجاه التحالف مع الدول الرافضة للسياسة الأمريكية. وقبل كل شيء طبعا المقاومة
المباشرة للوجود العسكري الأمريكي في البلاد. المهم هو مؤشر النفع، وان نصل الى
الحالة التي تتضرر فيها اميركا من وجودها العسكري على الأقل، أكثر مما تستفيد هي و
إسرائيل.
وهذا الأمر قد لا
يكون هيناً لان استفادة إسرائيل وأميركا من احتلال العراق كبيرة جدا وواعدة
بالكثير، لكن فرصة "التسبب بجرح" للدولة الأقوى تبقى اسهل كثيراً من هزيمتها
الكاملة، وعندما نتذكر ذلك سيكون لدينا أمل أكبر وفرصة أكبر لتحقيق الردع، وعلى
اية حال فحتى ان لم تكن هذه سهلة، فهي الطريقة الوحيدة، وهي مسألة حياة شعب أو موته!
(1) كيف
تقف بوجه قوة أكبر منك؟ 1- مبدأ الشطرنج الثلاثي
(2) عبد الجبار
الجبوري: ماذا قال بومبيو لعبد المهدي؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق