السبت، 20 أبريل 2019

اسعد أبو خليل: انهض واقتل أوّلاً: التاريخ السرّي للاغتيالات الاستهدافيّة لإسرائيل

آلاف الإسرائيليين يتظاهرون مطالبين بالإبادة للفلسطينيين ويرفعون شعارات: اقتلوهم جميعا
الشعار ( اقتلوهم جميعا ) هو نسخة عن الشعار الاميركي الشهير الذي فضحته تسريبات أسانج عن جرائم الاحتلال الاميركي في العراق ، خصوصاً المقطع الذي سربه / سربته له ماننغ والذي يُصور عملية قتل مدنيين عراقيين في منطقة الأمين شرق بغداد بينهم طفل وصحفي بطائرة درون مسيرة مع الأوامر الواضحة من قيادة العمليات الاميركيةاقتلوهم جميعا
 

 جريدة الأخبار

ليست قراءة كتاب «انهض واقتل أوّلاً: التاريخ السرّي للاغتيالات الاستهدافيّة لإسرائيل» لرونن برغمان
Rise and Kill First by Ronen Bergman.
Penguin Random House -2018، سهلة، والكتابة عنه أقلّ سهولة. هذا سجلٌّ حافلٌ ببعض إرهاب إسرائيل والحركة الصهيونيّة (الذي وثّقه المؤلّف من خلال وثائق حكوميّة سريّة) على مرّ أكثر من قرن. خلاصة ما أودُّ قوله من قراءة هذا الكتاب الذي صدر حديثاً، في هذا العرض النقدي، أن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة - خلافاً لكل ما لحقها من نقد محلّي أو خارجي - أخطأت كثيراً في أنها لم تستخدم العنف ضد عدوّها كما استخدمه العدوّ ضدها وضدّ حلفائها منذ أوائل القرن العشرين.
الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة هادنت وسالمت كثيراً، مُعوِّلة من خلال قادتها السذّج أو المتعاونين مع الاحتلال (مثل محمود عبّاس) على مكرمات دول الغرب وحسن نيّاتها. لو أن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة قابلت العنف الصهيوني بعنفٍ مضاد، لكان تاريخها أقلّ كارثيّة عمّا كان، ولكان العدوّ أقلّ قوّة. لو أن الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة قابلت عمليّات الاغتيال الصهيونيّة في العشرينيّات والثلاثينيّات والأربعينيّات، لكانت الميليشيات الصهيونيّة أقل قدرة على تحقيق نصر سهل في ١٩٤٨. يتحدّث الكاتب في مقدّمة الكتاب (الذي نشرت بعضاً من فصل منه مجلّة «نيويورك تايمز») عن الصعوبات التي صاحبت نشر الكتاب، وكيف أن أجهزة الدولة الإسرائيليّة (حاولت منعه، لما تضمّنه من استعمال لوثائق حكوميّة واستخباريّة سريّة)، لكن هذا لا يكفي للوثوق بالكتاب. يجب الحذر من كل ما يصدر عن مؤلّفين ذوي تاريخ في الاعتماد على مصادر استخباريّة إسرائيليّة (أو أميركيّة)، لأن المؤلّف يكون ـــ عن علم أو جهل ـــ يروّج لأغراض دعائيّة. وهذا المؤلّف له تاريخ في الاعتماد على مصادر استخباريّة إسرائيليّة، يتأثّر هو بها كما هي تعينه لأغراضها هي. كذلك فإن الكتاب هذا، بالرغم مما يتضمّنه من استفظاع من قبل المؤلّف نحو فظائع ارتكبتها قوّات إسرائيليّة، عسكريّة أو استخباراتيّة، إلا أنه لا يشكّك في الموقف الـ(لا)أخلاقي الإسرائيلي، ولا يرفض اعتناق المعيار العنصري الذي على أساسه تكون حياة العرب أبخس من حياة الإسرائيليّين والغربيّين. هو يسرد لمواقف وارتكابات عنصريّة إسرائيليّة، لكنه لا يتوقّف عندها. ولا يجد غضاضة من اجترار دعاية صهيونيّة كلاسيكيّة، مثل أن الجيوش العربيّة في ١٩٤٨ كانت أكثر عدداً وأفضل تسليحاً (ص. ٢٥) من الميليشيات الصهيونيّة (كان عدد جنود الصهاينة نحو ثلاث مرّات أكثر من عدد الجيوش العربيّة المتواطئة، التي أطلق بعضها النار على بعضهم الآخر بسبب غياب الإعداد والقيادة الموحّدة الفعليّة).



هذا كتاب يجب أن يُترجم إلى العربيّة، وأن تدرسه بدقّة كل حركات المقاومة العربيّة، لما يتضمّنه من معلومات عن مكامن الثُّغرات التي تتسرّب منها مخابرات العدوّ الإسرائيلي وعملاؤه. لا نقترح درس الكتاب من قبل الجيوش العربيّة، لأن همّها مختلف: لبنان أرضه محتلّة من قبل إسرائيل، والجيش اللبناني يصدر بياناً قبل أيّام عن نجاحه الباهر في اعتقال مواطن سوري زوَّر في صنع أدوات تنظيف منزلي. الكتاب يسمح باستخلاص دروس بليغة عن الأخطاء التي ارتكبتها المقاومة الفلسطينيّة والتي سمحت للعدوّ بالتمتّع بالتنسيق الأمني مع عصابة رام الله. فساد قادة المقاومة، مثلاً، كان ثغرة كبيرة تسرّبت منها مخابرات العدوّ (حالة الجاسوس عدنان ياسين، الذي كان مدير مكتب المنظمة في تونس: فساده جعله قابلاً للتجنيد)، والدرس الأهم أن المقاومة الفلسطينيّة لم تكن بفظاظة العدوّ الذي كانت تواجهه ووحشيّته، ولهذا فإنه تفوّقَ عليها في الميدان. خذ مثلاً اغتيال المناضل كمال عدوان في نيسان ١٩٧٣ في بيروت: يعترف الإسرائيليّون بأن سبب اغتيال عدوان أنه واجه قاتليه شاهراً رشّاشه، لكنهم أردوه قتيلاً لأنه تردّد للحظة في إطلاق النار، لأن واحداً من قاتليه، يهود باراك، كان متنكّراً في زي امرأة. عدوّنا لا يتردّد في قتل الأطفال الرضّع. ليست هذه دعوة إلى اعتناق وحشيّة العدوّ، لكن دروس تجربة المقاومة تفرض الاعتبار من تجربة العدوّ: يُقال اليوم إن مقاومة إسرائيل لا تُجدي بسبب التفاوت الهائل في مستوى القوّة بين الطرفيْن. لكن المفارقة أن الصهاينة لم يتغلّبوا على التفاوت الهائل بينهم وبين السكّان الأصليّين والعرب خارج فلسطين في مستوى القوّة بداية الحركة الصهيونيّة إلا بانتهاج العنف الفظيع لخلق حالة من الرعب والذعر، ولتضخيم القوة الذاتية للصهاينة في نظر أعدائهم. أي إن الصهيونيّة علمت مبكراً أن الإرهاب ــ بأي تعريف ــ هو لمصلحتها.
يذكّرنا الكاتب بأن إسرائيل اغتالت منذ الحرب العالميّة الثانيّة أكثر من «أي دولة في العالم الغربي» (قد نزيد أنها اغتالت أكثر من أي دولة في العالم، حتى لو احتسبنا في التعداد اغتيالات أميركا بعد ١١ أيلول). وبحلول الانتفاضة الثانية نفّذ العدوّ ٥٠٠ عمليّة اغتيال استهدافيّة (أي قتل من دون وازع أو محاكمة أو قانون، مصطلحات العدوّ العسكريّة تخفّف دوماً من وحشيته). قتل العدوّ فيها ١٠٠٠ شخص على الأقل بين مدنيّين وعسكريّين (يدمج العدوّ في التعداد كي يخفّف من حجم الضحايا المدنيّة). وفي الانتفاضة الثانية، نفّذ العدوّ ١٠٠٠ عمليّة قتل إضافيّة، زاد عليها منذ ذاك الحين ٨٠٠ عمليّة قتل أخرى. وعمليّات القتل هذه أصبحت محتذاة من دول الغرب، خصوصاً بعد ١١ أيلول.
ومنذ العشرينيات دشّن جناح «الصهيونيّة العمليّة» (وهي غير صهيونيّة هيرتزل المعروفة بـ «الصهيونيّة السياسيّة» لاعتمادها على الديبلوماسيّة، لكن الفارق بين الصهيونيّتيْن يضمحلّ عندما ندرس نقاط العنصريّة المشتركة بينهما، خصوصاً أنهما أهملا وجود السكّان الأصليّين) عمليّات القتل الممنهج، لا ضد العرب فقط، بل أيضاً ضد اليهود وغيرهم الذين يعرقلون مشروع إنشاء الدولة اليهوديّة بالقوّة (المشروع كان مشروعاً عنفيّاً من أساسه بسبب رفض الشعب الفلسطيني للرضوخ). قتل الصهاينة في حزيران ١٩٢٤ الناشط الحريديم، يعقوب داهان، لأنه قاوم الصهيونيّة لأسباب لاهوتيّة (ص. ٩).
يذكّرنا الكاتب بأن إسرائيل اغتالت منذ الحرب العالميّة الثانيّة أكثر من «أي دولة في العالم الغربي»

قرّرَ الصهاينة مبكّراً تنفيذ عمليّات اغتيال ضد العرب، من دون محاكمات أو قرارات عويصة. لا بل تنافست العصابات الصهيونيّة على قتل عرب من مختلف القطاعات، لا بل اجترحت قيادة الهاغانا من دون وازع عبارة «عمليّات الإرهاب الشخصي» لمطاردة ضباط الجيش البريطاني وقتلهم (ص.١٧). وابتكر الصهاينة تفخيخ الطرود والسيّارات، وبلغ من خطرهم في بريطانيا أن الحكومة البريطانيّة عدّت «الإرهاب الصهيوني» خطراً أكثر جديّة من خطر الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالميّة الثانيّة.
وكان إعداد الصهاينة للحرب المقبلة دقيقاً في عنفه، لدرجة أنهم وضعوا خطة «عمليّة استرلنغ» موضع التنفيذ، وهي كانت تقضي بإعدام اثنيْن وعشرين من القادة الفلسطينيّين (ص. ٢٢). لم يضع الفلسطينيّون خططاً مماثلة، لأن العفويّة والارتجاليّة سادت. واستعان الصهاينة بتقنيّات التنصّت على الهاتف لمتابعة تحرّكات وخطط ــ إذا كان هناك مِن خطط ـــ للقادة الفلسطينيّين. ومثل نمط القتل الصهيوني الذي ألفناه، لم يكن الصهاينة يتصيّدون قادة وشخصيّات في مواقع عسكريّة فقط، بل استهدفوا مدنيّين. و«عمليّة استرلنغ» استهدفت مثلاً في شباط ١٩٤٨ الشيخ نمر الخطيب, ولم يكن له أي دور عسكري، بل قدرته الخطابيّة كانت كافية لقتله، لكنه نجا. وبعد نجاته (أصيب بجراح بالغة)، وفي ظروف لا تزال غير واضحة، آثر هذا الزعيم ذو التأثير الجماهيري أن يتقاعد عن العمل الوطني وترك فلسطين من غير رجعة (ص ٢٤). وفي حيفا، قد يكون الصهاينة اجترحوا للمرّة الأولى سلاحاً بات معروفاً في التاريخ المعاصر، ألا وهو الشاحنة المفخّخة، واستهدفت في شباط ١٩٤٨ مقهى عربيّاً في حيفا، وقُتل خمسة فلسطينيّين.
وقرّرت الميليشيات الصهيونيّة مبكّراً أن العنف هو هدف بحدّ ذاته، وليس وسيلة لقتل هذا وذاك. الهدف منه كان خلق الإرهاب لترويع العرب وطردهم ومنعهم من العودة، ثم من أجل منع العمليّات الفدائيّة. ومبكراً، لم يميّز الصهاينة بين مدني وعسكري، وبين عربي وبريطاني (حتى رحيل البريطانيّين)، كذلك فإنهم استسهلوا قتل مَن يرونه عقبة أمام مخططاتهم، مثل الكونت برنادوت في أيلول ١٩٤٨، فقط لأنه عمل على وقف الحرب. حتى رياض الصلح الذي كان يخطب ضد اليهود والصهاينة في العلن، فيما كان يلتقي مع إلياهو ساسون من الوكالة اليهوديّة في السرّ، كان هدفاً للصهاينة، إذ أمر بن غوريون في ديسمبر ١٩٤٨ بقتله (ص. ٢٩، عارض موشى شاليت الخطة). ولتنظيم الإرهاب، شكّلت الدولة الجديدة جهاز الـ«موساد» والـ«شن بيت»، فيما منعت الرقابة العسكريّة الصارمة ذكر اسم الجهازيْن حتى الستينيّات من القرن الماضي. وتسري في دولة الاحتلال حتى الساعة قوانين حالة الطوارئ من سلطة الانتداب، وهي تفرض تقديم كل مواد إعلاميّة تتعلّق بالمخابرات والنشاط العسكري للجيش للرقابة العسكريّة قبل نشرها أو عرضها.
والوثائق الإسرائيليّة السريّة تظهر حجم الأكاذيب الرسميّة لحكومة العدوّ التي دائماً تقلّل من وطأة العمل الفدائي. كان ضابط المخابرات المصري، مصطفى حافظ، شديد الفعالية في تنظيم فدائيّين فلسطينيّين ابتداءً من ١٩٥٣. وبقوّة لا تتعدّى الستمئة استطاع حافظ أن يزعج دولة الاحتلال وأن يسبّب قتل ألف (المؤلّف يزعم على عادة العدوّ أنهم مدنيّون، ص. ٣٩) من الإسرائيليّين بين عام ١٩٥١ و١٩٥٥. والمخابرات الإسرائيليّة تعاملت باستخفاف مع العمل الفدائي بداية على أساس نظريّة عنصريّة لضابط في الهاغانا، مفادها أنه يمكن تجنيد أي عربي عبر «الثناء والنقد وفرج امرأة». وكان العدوّ يردّ بقتل مدنيّين ومدنيّات بأعداد كبيرة، وهذا نمط مستمرّ لدولة الاحتلال. وبرز دور شارون مذّاك في استعمال الوحشيّة المفرطة، وفي استفزاز العدوّ لإشعال جبهات القتال، أو التسبّب في حرب. وكانت مجزرة قبية في تشرين الأول ١٩٥٣ من أشهر أعمال شارون، عندما قتلت قوّاته من وحدة ١٠١ تسعة وستّين من سكان القرية (المراجع العربيّة تضع الرقم أعلى من ذلك). الحكومة الإسرائيليّة كذبت ونفت مسؤوليّة جيشها، ولامت «عناصر غير منضبطين»، وكرّر الكذبة المندوب الإسرائيلي في الأمم المتحدة، أبا إيبان (ص. ٤٥).
والتزم الضابط المصري، حافظ، بأصول سريّة العمل الفدائي، ولم يكن هناك من صورة له، فيما كان العدوّ يفتش عن الفرص لقتله. عندها بدأ العدوّ بابتكار أسلوب الكتب المفخّخة التي استعملها كثيراً حتى السبعينيّات من القرن الماضي. وهكذا اغتيل حافظ في تمّوز من عام ١٩٦٥. كان ذلك ضربة قويّة للعمل الفدائي المنطلق من غزّة. صرخ حافظ عند حدوث الانفجار: «لقد فزتم، يا كلاب».
لكن الوثائق تعزّز نظريّة «الأطراف» التي اعتمدها العدوّ، وبناءً عليها قوّى تحالفاته مع دول وأنظمة بعيدة عن جبهات القتال كي ينسّق في حروبه ضد أعدائه العرب. وكان مثلث المخابرات القوي في تلك الفترة يجمع بين مخابرات الشاه والمخابرات التركيّة ومخابرات دولة العدوّ. إن تغيير النظام في إيران وتغييره في تركيا بعد صعود أردوغان خلق فراغاً في التحالف المخابراتي الاستراتيجي عوّضت عنه إسرائيل بإنشاء تحالفات مع دول عربيّة مركزيّة، من مصر إلى السعوديّة والإمارات وقطر والمغرب والأردن والبحرين وعمان وعصابة أوسلو في رام الله.
ويفرد الكتاب فصلاً لحرب إسرائيل ضد العلماء الألمان في مصر، الذين كانوا يعملون على تطوير صواريخ للنظام المصري. لا يزال هناك على مواقع التواصل الاجتماعي اليوم مَن يسخر من صواريخ «الظافر» و«القاهر»، لكن العدوّ لم يكن يستهين بها بتاتاً. شهدت مرحلة الستينيّات تفرّغاً للمخابرات الإسرائيليّة لمواجهة هذا الخطر عبر تهديد العلماء الألمان وقتلهم. طبعاً، حاول العدوّ أن يجعل من حربه الدعائيّة جزءاً من الحرب ضد النازيّة، لكن الحجّة هذه كانت ضعيفة، لأن أبرز العلماء الألمان كانوا يعملون لمصلحة المخابرات الأميركيّة، ولم يكن هذا مصدر إزعاج للمنظمات الصهيونيّة حول العالم. وتشبه حرب إسرائيل ضد العلماء الألمان في مصر، حرب إسرائيل لاحقاً ضد العلماء العراقيّين والإيرانيّين. حملات مكثّفة من الاغتيالات التي لا تجد استنكاراً لها في دول الغرب. طوّر العدوّ من وسائل إجرامه في استحداث رسائل مفخّخة استخدمها ضد العلماء الألمان (واستعملت المخابرات الفرنسيّة رسائل إسرائيل المفخّخة لقتل مجاهدي «جبهة التحرير الجزائريّة» (ص.٦٧)). طبعاً، لم يكترث العدوّ عندما انفجرت واحدة من الرسائل المفخّخة في يد عامل بريد مصري وسبّبت فقدانه لبصره. وفي نطاق العمل المخابراتي الإسرائيلي يقع المؤلّف، عن قصد أو جهل، ضحيّة دعاية الـ«موساد» عبر الزعم أن الجاسوس الإسرائيلي في سوريا، إيلي كوهين، بلغ مرتبة عالية في الهيئة العسكريّة السوريّة، فيما كان تجسّس كوهين عبارة عن الإشراف على ماخور في قلب دمشق، تسيل فيه الكحول طمعاً في اعترافات جنود وضبّاط سوريّين. والكذب والمبالغة في مزاعم العدوّ عن أعدائه بدأ باكراً، إذ إن العدوّ بدأ يسرّب إلى الصحافة العالميّة المطيعة أن العلماء الألمان يطوّرون قنبلة ذريّة، فيما لم يكن هناك أي عمل من هذا النوع.
والعدوّ الذي عاب على النظام المصري استخدامه لعلماء ألمان (كانوا قد عملوا في النظام النازي) لم يغطِّ فقط على استعانة أميركا بعدد أكبر منهم، بل كان هو يستعين بالنازيّين متى كان ذلك في مصلحته. خذ حالة أوتو سكورزيني، الذي كان يُكنّى بـ«ضابط هتلر المفضّل» لما اشتهر به من عمليّات قوات خاصّة سريّة، وهو الذي أوكل إليه هتلر مهمة تحرير موسوليني من الأسر في عام ١٩٤٣. نسيت حكومة العدوّ دور سكورزيني في خدمة المشروع النازي (وكان هو نافذاً في ليلة «كريستال نخت» في عام ١٩٣٨). أنقذته إسرائيل من المحاكمة والموت مقابل تجسّسه على مشروع الصواريخ المصري والمساهمة في تخويف العلماء الألمان. منحته حكومة العدوّ جواز سفر وحصانة من المحاكمة لمدى الحياة وإزالة اسمه من قائمة النازيّين التي كان سيمون فيزنتال يحتفظ بها (ص. ٨٠).

للمرة الأولى تتحدّث مراجع إسرائيلية رسمية عن كوهين من دون تغطية دعائية مضلِّلة

وتروي الوثائق الإسرائيليّة السريّة الدور البارز الذي أدّاه الحسن الثاني في المغرب لعون دولة الاحتلال، وسمح لها بفتح مكتب لـ«الموساد» في المغرب في الستينيّات للتجسّس على العرب، وهو سمح لـ«الموساد» بوضع أجهزة تنصّت في الرباط عند انعقاد قمّة عربيّة فيها في عام ١٩٦٥. وسمع ضباط العدوّ تسجيلات لقادة عسكريّين عرب يعترفون فيها بأن جيوشهم غير مستعدّة لمحاربة إسرائيل، لكن العدوّ لم يصرّح بتلك المعلومات، لأنه يحب أن يظهر أحياناً بمظهر الضعيف، وأحياناً أخرى بمظهر القوي الجبّار. والحسن الثاني هذا، الذي نال مساعدة الـ«موساد» في اغتيال المعارض بن بركة (وغيره ممن لا نعلم به) أصبح في السبعينيّات رئيس «لجنة القدس» في الجامعة العربيّة، وكان ياسر عرفات يعتبر أن القدس أمانة في يده (لو كانت أمانة في يده، لسمح لـ «الموساد» بوضع أجهزة تنصّت في المسجد الأقصى).
وللمرّة الأولى تتحدّث مراجع إسرائيليّة رسميّة عن إيلي كوهين من دون التغطية الدعائيّة المُضلِّلة التي صاحبت كل حديث عن الرجل ودوره في الإعلام الغربي والعربي، وجعلت منه بطلاً سينمائيّاً ومسرحيّاً وتلفزيونيّاً (وهناك فيلم جديد يُعدّ عنه على «نتفلكس»). مدير المخابرات الأميركيّة في عهد جيمي كارتر، الأدميرال ستانسفلد تيرنر، قال ذات مرّة عن الـ«موساد» على شبكة «إي.بي.سي» بعد انفضاح عمليّة تجسّس المُحلّل في البحريّة الأميركي، جوناثان بولارد، إن الشبكة تستحق علامة عاديّة جداً في عملها التجسّسي، لكنها تستحق علامة متفوّقة في عملها الدعائي للترويج عن أعمالها. أصبحت عنواناً للمهارة التجسّسيّة في مرحلة لاحقة، لكن تلك السمعة تعرّضت لتعديل كبير بعد عمليّة المبحوح في دبي وعمليّة اغتيال خالد مشعل الفاشلة في عمّان، وافتضاح جهل العدوّ بأسرار حزب الله، خصوصاً في القدرات الصاروخيّة. ليست الـ«موساد» على ما كانت عليه من سمعة مخيفة في أيام طفولتي وصباي. هل يمكن أن يتصوّر أحد أن العدوّ يستطيع أن يتسرّب اليوم إلى لبنان ويقتل قادة في المقاومة كما فعل في نيسان ١٩٧٣ من دون أن يُصاب بأذى وأن ينفضح؟ لا، لم تعد ساحة الصراع على ما كانت عليه من سهولة.
والوثائق الإسرائيليّة السريّة تعترف بأن انكشاف أمير إيلي كوهين ــ وبتنا ننسى أن الأخير اكتُشفَ وافتضح أمره، والاكتشاف في العمل الاستخباري هو ذروة الهزيمة والفشل ــ شكّل «إذلالاً» لمدير الـ«موساد» (ص. ٨٨). والمبالغات الفظيعة عن المعلومات التي حصل عليها كوهين كانت فقط للتغطية على إذلال الـ«موساد». وقد استطاعت المخابرات السوريّة في عهد صلاح جديد أن تكسر كوهين في الأسر، وقد اعترف بفعلته، وكشف عن الرموز الكوديّة للتواصل السرّي مع الـ«موساد». وكوهين أجبر على فك رموز ٢٠٠ رسالة كان قد بعثها إلى مُشغّليه في فلسطين المحتلّة، ولم تستطع المخابرات السوريّة فكّها إلا بعد أن أجبرته على الاعتراف (قد تعترض منظمّات الـ «إن.جي.أو» اليوم على الفظاظة في التعامل مع الجاسوس الإسرائيلي). وزوّد المخابرات السوريّة بمعلومات عن أساليب المخابرات الإسرائيليّة في تجنيد العملاء وتدريبهم، وفي تغطية عملهم. وكل ما نُشر، ولا يزال يُنشر اليوم في الصحافة العربيّة ــ خصوصاً تلك المواقع العربيّة النابتة ذات اليمين وذات اليسار، وهي كلّها تصبّ في سكّة يمينيّة رجعيّة تفسّر التمويل الأوروبي أو الأميركي لها (حتى سويسرا والدانمارك دخلتا في لعبة إنشاء المواقع «الإخباريّة» و«السياسيّة» العربيّة ــ عن إيلي كوهين وعن منجزاته ليس إلا إنتاجاً هوليوودياً من المخابرات الإسرائيليّة التي طمرت فشلها بكمٍّ هائل من الأكاذيب.
نعلم اليوم أن خبر تعارف كوهين مع أمين الحافظ في الأرجنتين كان كذبة (ولم يتزامن الاثنان هناك). ليس صحيحاً أن كوهين كان مُعدّاً كي يصبح وزيراً أو رئيس وزراء حتى في بعض المراجع الغربيّة عنه. وما حصل كوهين عليه من معلومات كان مجموعة من الثرثرات التي سمعها هو، أو سمعتها مومساته، في الماخور الذي أداره في منزله. وتزامن كشف الجاسوس الإسرائيلي في دمشق مع كشف المخابرات المصريّة لجاسوس إسرائيلي في القاهرة، وولفغانغ لوتز، الذي كان يدير شبكة مهمتها قتل العلماء الألمان. لكن لوتز نجا من المقصلة، لأن الحكومة الألمانيّة الغربيّة تبنّته إنقاذاً لحياته.


الجزء الثاني
الكتاب الذي بين أيدينا «انهض واقتل أولاً: التاريخ السرّي للاغتيالات الاستهدافيّة الإسرائيليّة» لرونِن برغمان

Rise and Kill First by Ronen Bergman, Penguin Random House -2018 يكشف بعض أساليب عمل الـ«موساد» في بلادنا، ولهذا فإن أجهزة مكافحة التجسّس والاختراق في حركات المقاومة — الحاليّة والمستقبليّة — يجب أن تدرس هذا الكتاب بدقّة متناهية لما يحتويه من معلومات لم يتقصّد المؤلّف كشفَها في بعض الأحيان. يكتب برغمان مثلاً أن عملاء الـ«موساد» يتخفّون غالباً بشخصيّة صحافي أو مصوّر أو كاتب سيناريو يعمل على إعداد فيلم، وأن هذه الهويّات المزيّفة تسري لأنها لا تتطلّب شروحات كثيرة (ص. ١٠١). وقد فكّرت في هذا قبل أيّام عندما رأيت صورةً لمؤتمر صحافي لغسان كنفاني من عام ١٩٧٠، وكان مُحاطاً بجيش من المراسلين والمصوّرين (معظمهم بدوا غربيّين وغربيّات). نذكرُ كيف كانت المنظّمات الفلسطينيّة (بما فيها «الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين» التي كان من المُفترض أن تكون أكثر حذراً) تفتحُ ذراعيْها ومكاتبَها أمام كل غربي وغربيّة يأتي إلى بيروت بحجّة كتابة مقالات صحافيّة أو كتاب عن الثورة الفلسطينيّة. لم يكن هناك من تدقيق أو تمحيص في خلفيّة أيٍّ من هؤلاء، وكان الافتراض دوماً أنهم أصدقاء حقيقيّين للثورة. ومَن مِنّا قابل أو عرفَ صحافيّة أو صحافي قدموا إلى بيروت بعد اغتيال الحريري بحجّة كتابة موضوع عن الحريري، ولم يكتبْ هؤلاء على مرّ السنوات كلمة واحدة في المجلّة التي كانوا قد قالوا لنا إنها أرسلتهم إلى لبنان في مهمّة صحافيّة؟
ويظهر من الوثائق الإسرائيليّة السريّة الاهتمام الإسرائيلي المُبكِّر بحركة «فتح» وقيادتها، ما يعكس الصورة التي تركتها الدعاية الإسرائيليّة عن عدم فعاليّة العمليّات الفدائيّة لفصائل المقاومة في أواخر الستينيّات وأوائل السبعينيّات. وينقلُ في استشهاد بياسر عرفات جملةً يظهر منها أن المخابرات الإسرائيليّة فبركتها ونقلها هو بلا كيف (يقول فيها عرفات «حتى نرمي كل اليهود في البحر» (ص. ١١٠) وهذه العبارة نسبتها حكومة العدوّ إلى أحمد الشقيري من قبل — وهو لم يقلْها ونفاها أكثر من مرّة — ثم نسبتها إلى غيره لأنها تجد أنها سهلة التأثير في الإعلام والرأي العام الغربي في عصر ما بعد المحرقة اليهوديّة). وترد في الكتاب معلومةٌ مهمّة عن حصول مدير الموساد قبل حرب ١٩٦٧ على الضوء الأخضر من روبرت ماكنمارا لشنّ الحرب (ص. ١١٣).
ويتجلّى غياب الحسّ النقدي للمؤلّف في تغطيته للرواية الإسرائيليّة عن «أيلول الأسود». فهو لا ينفي مسؤوليّة أبو حسن سلامة عن عمليّة ميونيخ (بالرغم من عدم وجود أي صلة له بها، لا بل إن الكاتب يضيف أن سلامة كان على صلة بمنظّمات يساريّة غربيّة، ولإضفاء المزيد من المهارة على عمل الـ«موساد» في استهدافه). ويضيف المؤلّف أنه لم يكن لسلامة صورٌ (ص. ١٧٨)، مع أن صورَه كانت تملأ الصحف اللبنانيّة، لا بل هو يتحدّث عن مقتل وائل زعيتر، الكاتب الفلسطيني الذي لم يكن له صلة بالعمل العسكري بتاتاً: هو من ناحية يقول إن مسؤولاً في الـ«موساد» اعترف بأن «خطأً بالغاً» ارتُكبَ في اغتيال زعيتر، ويضيف المؤلّف مُشكّكاً في براءته أن الفلسطينيّين نفوا ضلوعه في ميونيخ، لكن «مزاعم مماثلة قد قيلت عن كل هدف» لاغتيال الـ«موساد» (ص. ١٦٠) في تلك الفترة. لكن هذا غير صحيح: لم ينفِ أحد في المقاومة أن كمال عدوان كان ضالعاً في عمل المقاومة، أو أن محمد بودية (مسؤول في منظمة وديع حداد، واغتيل في باريس عام ١٩٧٣) لم يكن مسؤولاً في المقاومة. تشكيك المؤلّف يهدف إلى تسويغ قتل المدنيّين. ويستبطن المؤلّف دعاية العدوّ عندما يجعل هدف كل عمليّات المقاومة هو قتل اليهود — كيهود. وهو ينقل دعاية مصادره في الـ«موساد»، ويقول إن وديع حدّاد — الزاهد وديع حدّاد، الذي ترك الدنيا ومتاعها من أجل التفرّغ لتحرير فلسطين — كان يعيش حياة ثراء في لبنان وفي فلسطين (ص. ٢١١).
وفي عمليّات العدوّ الإرهابيّة في قلب لبنان قبل الحرب، يرد ذكر عميل إسرائيلي لبناني يصفه الكتاب بـ«واحد من أكثر عملاء "أمان" قيمةً في تاريخ العملاء اللبنانيّين»، وأنه «من عائلة مسيحيّة ثريّة وذات علاقات واسعة». وتطوّع هذا الرجل بتقديم معلومات (مجاناً) إلى العدوّ منذ الأربعينيّات من خلال الحمام الزاجل يومها، إلى أن جهّز سيارته بكاميرا تصوير كان يرسلها إلى العدوّ (بلغ عدد الصور التي أرسلها مئة ألف صورة، ص.١٦٢). وكان يزور فلسطين المحتلّة (قبل اندلاع الحرب) عبر البحر. هذا اللبناني هو الذي أمدّ العدوّ بمواقع سكن قادة المقاومة في شارع فردان، ما أدّى إلى عمليّة الإرهاب التي استهدفتهم في نيسان ١٩٧٣.
مَن يكون هذا الشخص يا ترى؟ هل هو الصناعي والناشر اللبناني الذي استضاف يخته لقاءات في خليج جونية بين قادة العدوّ وقادة الجبهة اللبنانيّة؟ وهو نفسه الذي كان سليمان فرنجيّة يريد أن يوزّره، لكن المخابرات المصريّة حذّرته بسبب علاقاته بالعدوّ. لكن سهولة عمليّة الاغتيال في ١٠ نيسان في شارع فردان بالنسبة إلى العدوّ، تحيّر: كيف يمكن أن تستسهل المقاومة أمنَها لهذه الدرجة، وأن تخرق أبسط معايير السريّة والأمن؟ هذا لا يعفي الدولة اللبنانيّة التي كانت آنذاك متواطئة في بعض قادتها وأجهزتها مع العدوّ. ولم تحصل أي محاسبة في صفوف المقاومة عن حالة التسيّب الأمنيّة التي أدّت إلى نجاح العدوّ في الاختراق، والذي وجد جنوده حرّاس المقاومة نائمين في سيّاراتهم.

يتجلّى غياب الحسّ النقدي للمؤلّف في تغطيته للرواية الإسرائيليّة عن «أيلول الأسود»

أما عمليّات العدوّ في أوروبا، فهي اعتمدت على دور مخبر في منظمة وديع حداد («العمليّات الخارجيّة»). لكن عدد أعضاء منظمة «العمليّات الخارجيّة» في أوروبا في عام ١٩٧٣ كان صغيراً جداً، وعدد الذين كانوا يعلمون بعمليّات قبل حصولها أقل. وهذا العميل الإسرائيلي الذي يرد في الوثائق أعلمَ العدوّ بالتخطيط لعمليّة ضد طائرة «العال» في روما في عام ١٩٧٣. لقد حامت الشكوك كثيراً على مرّ العقود حول دور اللبناني، ميشال مكربل، الذي أرداه «كارلوس» قتيلاً في عام ١٩٧٥ بعد عودة الأوّل من بيروت. لكن وثيقة لـ«ويكيليكس» تروي ما حدث لمكربل في بيروت؛ إذ إنّ سلطات الأمن اللبنانيّة اعتقلته وتعرّض لتعذيب بحضور مسؤول أمني أميركي (المسلسل الألماني - الفرنسي، «كارلوس»، اختار أن يغيّر هويّة المسؤول الأمني الأميركي إلى فرنسي، لسبب مشبوه ما). لكن السلطات اللبنانيّة تركته يعود إلى فرنسا، ما أثار شبهات رفاقه يومها، بعد أن أعلمت السلطات في باريس عنه، وهو الذي قادها إلى مكان كارلوس، الذي فرَّ بعد أن أطلق الرصاص على شرطيّيْن فرنسيّيْن وعلى مكربل. لكن هناك مَن يذكّر بأنّ مكربل أتى إلى وديع حدّاد بتزكية من الحزب القومي، وليس في تاريخ أعضاء الحزب خيانات وعمالة. كذلك فإن وثيقة «ويكيليكس» لا توحي أن مكربل كان يعمل للعدوّ، لكن يجوز أن العدوّ الذي يحمي عملاءه لم يمكن قد أعلم الحكومة الأميركيّة بالأمر. ومما يزيد من الشكوك حول مكربل، ما يرد في الكتاب من أن العميل هذا هو الذي أعلم العدوّ بخطط عمليّات للمسؤول الأوروبي في جهاز «العمليّات الخارجيّة»، الفذ، الجزائري محمد بودية. وهناك رفاق قالوا إنه لم يكن غير مكربل يعلم بخطط بودية، التي علمَ بها الـ«موساد» وسارع إلى قتله قبل القيام بها. وكارلوس كان ولا يزال على قناعة بأن مكربل هو العميل يومها. وحول اغتيال باسل الكبيسي، يعترف المؤلّف (نقلاً عن مصادره) أنه كان «ناشطاً على مستوى منخفض» (ص. ١٧٥)، لكنهم قتلوه.

التفجيرات و«جبهة تحرير لبنان من الغرباء»
والكتاب يتطرّق إلى جرائم عديدة للعدوّ في لبنان، خصوصاً من ناحية إطلاق عمليّات تفجير إرهابي في كل لبنان تحت اسم مستعار: «جبهة تحرير لبنان من الغرباء». ومصطلح «الغرباء» أطلقه الانعزاليّون في لبنان عشيّة الحرب الأهليّة، وهو كان على الأرجح من اجتراح إسرائيل. وضلوع لبنانيّين في عمليّات الإرهاب الإسرائيلي يجب أن يقضي مرّة، وإلى الأبد، على فكرة وطنيّة طائفة ما وخيانيّة طائفة أخرى. ليس من طائفة وطنيّة وأخرى عميلة: كل الطوائف عرضة لنفس التقلبّات والفساد والانجرار إلى الخيانة، والطائفيّة بحدّ ذاتها هي منفذ لأعداء لبنان والعرب. ونكاد ننسى اليوم أن حالة عداء مرضيّة ضد الفلسطينيّين سادت في أوساط شيعة لبنان في أواخر السبعينيّات والثمانينيّات. كيف ننسى تظاهرات في صور في منتصف الثمانينيّات هتف فيها الناس «الفلسطيني عدوّ الله». ولا ينفع في التسويغ التذكير الممجوج بفساد فصائل المقاومة وتجاوزاتها، لأن زعران لبنان شكّلوا مدرسة في التجاوزات والفساد. وزاد في حالة العداء ضد الفلسطينيّين التحذيرات المشبوهة التي كان رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في حينه الشيخ محمد مهدي شمس الدين يطلقها من دون توقّف ضد التوطين، متلاقياً آنذاك مع الانعزال اللبناني (مثل شمس الدين وخليفته الشيخ عبد الأمير قبلان مع صائب سلام الجانب الإسلامي من تحالف مع حزب الكتائب بعد اجتياح ١٩٨٢). ويذكر الكتاب تاجراً شيعياً «من عائلة مرموقة» (ص. ٢١٩) جنّده جهاز «أمان» بسبب كراهيته للفلسطينيّين، ولتسهيل تهريبه للمخدّرات (ويرد ذكر هذا الرجل في وثائقي «نتفلكس» عن الـ«موساد»).
الخطة الجهنميّة في إطلاق الإرهاب العشوائي في كل لبنان و«قتل الجميع»، حسب قول رئيس الأركان الإسرائيلي رافائيل إيتان (ص. ٢٣٤)، هدفَ حسب الخطة إلى «زرع الفوضى في أوساط الفلسطينيّين والسوريّين في لبنان، ومن دون ترك بصمات إسرائيليّة» (ص. ٢٣٥). ولهذا الهدف جنّدَ العدوّ لبنانيّين، مسيحيّين وشيعة، كانوا يسرّبون السيّارات والدرّاجات الناريّة والحمير محمّلين بالمتفجّرات، ثم يرسلونها كي تنفجر ضد أهداف متنوّعة. وبحلول صيف ١٩٨١، توالت تفجيرات السيّارات المُفخّخة في بيروت الغربيّة ومدن أخرى في لبنان. وفي تفجير واحد (باسم «جبهة تحرير لبنان من الغرباء») قُتل ٨٣ وجُرح ٣٠٠. وأذكر عندما كانت تحدث هذه التفجيرات كيف أن صوت إسرائيل في لبنان، أي إذاعة «صوت لبنان» الكتائبيّة، كانت تسارع إلى التشديد على أن هذه التفجيرات من صنع «جبهة تحرير لبنان من الغرباء». وكان ياسر عرفات سبّاقاً عندما نسبها مبكراً إلى العدوّ، كذلك فإن مراسلة «كريستشن ساينس مونتر»، في لبنان آنذاك، هيلينا كوبان (وهي لا تزال مناصرة للحقوق الفلسطينيّة بعد تقاعدها) ربطتها بإسرائيل (راجع تقريرها في ٢٦ حزيران، ١٩٨٠). وانفجرت سيّارة في نفس العام في صيدا، وأودت بحياة ٢٣ شخصاً. وفي شهر كانون الأول/ ديسمبر، وقعَ ثمانية عشر تفجيراً في سيّارات أو درّاجات ناريّة أو درّاجات هوائيّة أو حمير» (ص. ٢٤٢). لو أن الحكومة اللبنانيّة تستخدم هذا السجلّ المبني على وثائق إسرائيليّة لتقدّمت بشكوى رسميّة أمام المحكمة الجنائيّة الدوليّة بناءً على جرائم حرب إسرائيل في لبنان. لكن لبنان يريد دوماً الاحتفاظ بعلاقات ممتازة مع أميركا — عذراً، أعني «المجتمع الدولي»، وهو الاسم الحركي لأميركا في لبنان — من أجل استمرار تزويد لبنان بطائرات رشّ المبيدات وصواريخ بمدى ٣ و ٤ أميال. وكانت المتفجرات الاسرائيليّة تُجمع في أكياس مسحوق غسيل «أريل»، كي لا تلفت الانتباه، وكان ينقلها العملاء اللبنانيّون (المسيحيون والشيعة) إلى مواقع التفجير.
وبالإضافة إلى القتل والترويع والإرهاب الذي استخدمه العدوّ منذ الثلاثينيّات، كان لشارون هدف آخر من تفجيرات «جبهة تحرير لبنان من الغرباء». كان يريد أن يستفزّ عرفات كي يخرق وقف النار ويقصف إسرائيل من أجل إطلاق عمليّة غزو لبنان التي كان شارون مستعداً له — بذرائع ومن دون ذرائع (كل من يسوق حجّة «يجب عدم تقديم الذرائع لإسرائيل» هو ليس فقط جاهل بتاريخ الصراع مع هذا العدو، لكنه مُشارك، وعن قصد، في المخطّط الاسرائيلي الذي يريد القضاء على كل حركات الرفض والمقاومة العربية ضد احتلال إسرائيل وعدوانها). واستهدفت التفجيرات الجيش السوري في لبنان، كذلك كان هناك إعلان مسؤوليّة عن عمليّات ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي، وهدفت إسرائيل من وراء ذلك إلى تمويه خلفيّة عمل «الجبهة» وطبيعته (ص.٢٤٢). وتعترف المصادر الإسرائيليّة في الكتاب بأن عمليّات تفجير السيّارات التي قامت بها إسرائيل كانت المدرسة التي تعلّم منها كل من استخدمها فيما بعد، مثل حزب الله في عمليّاته ضد أهداف إسرائيليّة وأميركيّة في لبنان.

كتاب مؤلم جداً لأنه يذكّر بأن العدوّ يعترف ببعض جرائمه الفظيعة في لبنان، فيما هناك فريق سياسي عريض ينفيها

وتفجيرات «جبهة تحرير لبنان من الغرباء» كانت تمهّد من أجل خلق بيئة منهكة تستفيد منها إسرائيل في غزوها في عام ١٩٨٢. والعام الذي سبق عام الاجتياح، حفل بحروب بين عصابات وتفجيرات كثيرة، نعلم اليوم أن العدوّ كان المسؤول عن الكثير منها. وفي ٥ شباط من عام ١٩٨٢، انفجرت سيّارة أمام «مركز الأبحاث الفلسطيني» (الخالي تماماً من أي وجود عسكري) فقتل العدوّ فيه ١٨ مدنيّاً ومدنيّة وجرح ١١٨ مدنيّاً ومدنيّة، باعتراف جريدة «نيويورك تايمز». ومراسل «نيويورك تايمز» في بيروت آنذاك توماس فريدمان، الذي كتب التقرير عن هذا الانفجار، نسب التفجير إلى «منظمّة سريّة» مجهولة اسمها «جبهة تحرير لبنان من الغرباء». وعند نشر مقتطف من كتاب برغمان في «مجلّة نيويورك تايمز»، بدأ الأكاديمي الشاب، ريمي برولين، بجعل هذه القضيّة قضيّته. ولقد نشرَ برولين ثلاث مقالات عن «جبهة تحرير لبنان من الغرباء»، وهو يرسل بصورة منتظمة على «تويتر» رسائل إلى توماس فريدمان وإلى غيره عن ردّ فعلهم حول افتضاح تورّط إسرائيل في الإرهاب الفظيع في لبنان. وحتى الساعة، لم يجب أيٌّ من الذين أرسل إليهم استفساراته (طالباً اعتذارهم عن التضليل) عليه. وأخبرني برولين أنه سمع باسم هذه المنظمّة للمرّة الأولى في عام ٢٠٠٤ عندما كان يعدّ أطروحته في السوربون عن تاريخ الخطاب الأميركي عن الإرهاب. ووقع بالصدفة على مقالة لي أوبراين (أكاديميّة يساريّة عرفتُها في واشنطن) في مجلّة «ميريب» في أكتوبر ١٩٨٣ بعنوان «حملة من الإرهاب: السيّارات المُفخّخة في لبنان»، وفيها لمّحت أوبراين إلى مسؤوليّة العدوّ عن أعمال الجبهة المزعومة. وإذا كانت هذه الفضائح قد شغلت أكاديميّاً غربيّاً، فلماذا لا يكون الموضوع على كل شفة ولسان في بلادنا؟
الموضوع ليس بريئاً البتّة. أقول أكثر من ذلك: هناك ضلوع إسرائيلي غير خفي في الخطاب الدعائي لـ ١٤ آذار منذ ولادتها حتى الساعة. لا شكّ في أن النظام السوري ارتكب فظائعَ في لبنان، لكن سياق خطاب ١٤ آذار (وعقيدته التي لم تكن أميركا ولا إسرائيل بعيدتيْن عنها) هدفت في الآن نفسه إلى تخليص لبنان من نفوذ النظام السوري بعد أن تناقض دوره مع أميركا والسعودية اللتيْن كانتا ترعاه، وهدفت أيضاً إلى تبرئة إسرائيل من جرائمها. وليس هناك في لبنان اليوم من يتحدث عن جرائم إسرائيل وعن اغتيالاتها. يجب أن نجري جردة بجرائم النظام السوري في لبنان، لكن يجب أيضاً أن نجري جردة بجرائم إسرائيل التي فاقت كل الجرائم الأخرى في العدد وفي النوعيّة الجرميّة. وإذا كان المؤلّف يقول بثقة إن إسرائيل اغتالت أكثر من أي دولة غربيّة منذ الحرب العالميّة الثانية، فهل يصعب القول إن إسرائيل اغتالت في لبنان، منذ الخمسينيّات، أكثر من أي دولة ومن أي فريق لبناني؟ لكن تعداد الجرائم والاغتيالات يغفل ويطمسُ دائماً دور إسرائيل لأن جزءاً من عمل ١٤ الخبيث — وهو لم يتوقّف لساعة — هو محو الذاكرة الجماعية للشعب اللبناني وتحميل طرف واحد (النظام السوري) كل ما ارتُكب من جرائم في لبنان (لتبرئة الانعزاليّين وراعيتهم إسرائيل). وتتبيّن الخلفيّة الإسرائيليّة لـ١٤ آذار عندما تجد أن «القوات اللبنانيّة»، ربيبة إسرائيل، حرفيّاً وليس مجازيّاً، تدين الخطف من قبل النظام السوري في لبنان وتطالب بعودة المحتجزين منها. صحيح، أن النظام السوري خطف وقتل الكثير من اللبنانيّين، لكن هناك طرفٌ واحد في لبنان خطف وقتل واحتجز أكثر من النظام السوري، هو «القوّات اللبنانيّة» وراعيتها في تل أبيب.
ويتكرّر في الرواية الاستخباريّة الإسرائيليّة ما نعرفه عن اجتياح ١٩٨٢ وعن دور الحقراء من أذيال إسرائيل. العدوّ لم يخفِ يوماً أن أحد أهداف الاجتياح كان تنصيب الميليشياوي، بشير (ومدير ماخور في بيروت الشرقيّة) رئيساً، فيما لا يزال هناك في لبنان من يقسم أغلظ الأيمان أن عمليّة تنصيب بشير كانت ديمقراطيّة، وأن رشوة المرّ لـ«التأثير» في النوّاب ورئيسهم كانت بريئة وتدخل في خانة الكرم العربي التقليدي. ويرد في وثائق الكتاب أن بشير هذا كان يلحّ على جيش العدوّ بأن يقتحم بيروت الغربيّة (ص. ٢٥٢) (كيف يظنّ عملاء الاحتلال الخارجي أن قادة الاحتلال يأخذون برأيهم؟ من أين تأتي هذه المغالطة؟). وكان بشير يشكو مِن أن قصف المدفعيّة على بيروت الغربيّة لا يكفي أبداً، وأن الناس «تعوّدت عليه» وأنه يجب تكثيف القصف الجوّي على الآمنين هناك. هذا له طابع بريدي، وهناك ساحة باسمه في بيروت. كان بشير الجميّل يطالب بمزيد من القصف، فيما كان رونالد ريغان (وهو صهيوني يميني) يقول في مكالمة هاتفيّة مع ميناحيم بيغن: «إنكم ترتكبون هولوكست في بيروت». وفي مجازر صبرا وشاتيلا، يتكرّر ورود اسم مجرمي الحرب، إيلي حبيقة ومارون مشعلاني (ص. ٢٦٣). ويضيف الكتاب أن حتى بيانات وإعلانات وأكاذيب القوّات اللبنانيّة وحزب الكتائب عن مجازر صبرا وشاتيلا كانت بتنسيق إعلامي مع إسرائيل. وعندما اعترض حزب العمل على مجازر صبرا وشاتيلا، ذكّرهم الليكود بمجازر الكتائب وحلفائهم في تل الزعتر وجسر الباشا، وكيف كان زعران الميليشيات الانعزاليّة يقطعون آذان ضحاياهم ويشكُلونها على أحزمتهم، وكيف بقروا بطون الحوامل بالسكاكين. لا بل إن شارون هدّدهم، بأنه لو أن حزب العمل استمرّ في الحديث عن مجازر صبرا وشاتيلا، فإن الليكود سيسرّب إلى الصحافة تفاصيل مجازر الكتائب والأحرار في مجزرة تل الزعتر (ص. ٢٦٥). عندها سكت ساسة حزب العمل.
هذا كتاب مؤلم جداً لأنه يذكّر بأن العدوّ يعترف ببعض جرائمه الفظيعة في لبنان، فيما هناك فريق سياسي عريض ينفي جرائم إسرائيل في لبنان ويطالب جهاراً بتعريض أمن لبنان أمام إسرائيل عبر نزع سلاح المقاومة وترك مهمّة الدفاع عن لبنان لأمثال ميشال سليمان وجان قهوجي. لكن التاريخ لن يعود إلى الوراء، وبطولات تمّوز ٢٠٠٦ لن تُمحى مهما جهدَ أعداء المقاومة في لبنان لمحوها من ذاكرتنا ومن ذاكرة العدوّ.
* كاتب عربي (حسابه على «تويتر» asadabukhalil@)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق