الاثنين، 11 سبتمبر 2023

40 عاماً على 11 أيلول مجهولة -صائب خليل - نشرت في 15 أيلول 2013



نعم هناك 11 أيلول أخرى، كارثة أخرى، لم يقتل فيها ثلاثة الاف شخص فقط بل حطمت أيضاً ديمقراطية عمرها 150 عاماً وأدخلت البلاد في ظلام الدكتاتورية العسكرية لعقدين من الزمان

 لكن الشعب الذي اصيب في تلك الـ 11 أيلول لم يكن أحد الشعوب الغربية، ولم يكن إسرائيل، لذلك فلا صوت له ولربما لم تسمع به، وإن سمعت فبشكل همس منسي، على الأقل لا يستدعي اهتمامك بشكل يشبه بأية طريقة الـ 11 أيلول الأخرى التي كان على العالم أن يقف مذعوراً وهو يشاهدها تنقل حية على كل تلفزيوناته، ثم ليرى الوحش الغاضب بسببها أو بحجتها، يغتصب البلاد تلو البلاد.

 

أن ما وصف بأنه "أكبر عمل معادٍ للديمقراطية في التاريخ"، حدث في شيلي، وكان الإنقلاب على الرئيس المنتخب أللندي الذي مرت قبل أيام الذكرى الأربعين لاستشهاده وهو يدافع عن الديمقراطية في بلاده ضد الجنرالات المدعومين من أميركا.

 

من هو أللندي ولماذا لم يعجبهم؟

 

أللندي طبيب ماركسي شجاع تعاطف مع فقراء بلاده ورأى ظلم الشركات الأجنبية والمحلية وتحطيمها لمستقبل شعبه، شأنه في ذلك شأن جيفارا، إلا أنه اختلف عنه في الأسلوب الذي اختاره: الإنتخابات وليس الثورة. ولا غرابة أن جيفارا وقع له على كتاب أهداه إياه بعبارة : "إلى سلفادور أللندي الذي قرر الوصول إلى نفس النتيجة بوسائل أخرى"!

 

بعد تخرجه وبسبب مواقفه السياسية، لم يجد أللندي عملاً إلا في تشريح جثث الفقراء، ومن خلاله وجد كم من هؤلاء كانوا يموتون من أمراض سهلة العلاج ولمجرد أنهم لم يتمكنوا من دفع ثمنه. وفي 1937 انتخب أللندي لعضوية الكونغرس القومي الشيلي، فقدم فوراً مجموعة مطالب تتعلق بالصحة العامة والرفاه وحقوق المرأة. وفي 1942 انتخب قائداً للحزب الإشتراكي وعضو في مجلس الشيوخ، فقدم مشروع قانون للرعاية الصحية، والذي أصبحت شيلي من خلاله، أول دولة في قارتي أميركا الشمالية والجنوبية تحصل على التأمين الصحي لجميع المواطنين، وهو ما لم يحصل عليه معظم شعوب نصف الكرة الغربي حتى اليوم.

 

وفور استلامه السلطة في عام 1970، قام أللندي بإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الإتحاد السوفيتي وكوبا، متجاهلاً المنع الأمريكي المفروض على دول المنطقة، واعترف بجمهورية الصين وقام بتنفيذ مجموعة من القوانين الإجتماعية، وقام بتأميم البنوك الأجنبية ومناجم الفحم والنحاس ومعامل الحديد والصلب، وتم تقديم فرص للعمال فانخفضت نسبة البطالة إلى النصف، واستلمت الحكومة مهمة الرعاية الصحية، وقدم الحليب المجاني إلى من لم يكن يستطيع دفع ثمنه لتقليل سوء التغذية المنتشر في البلاد. كذلك تم تقسيم الملكيات الكبيرة من الاراضي وتوزيعها على الفلاحين الذين لا يملكون أرضاً، وتم تجميد أسعار المواد الأساسية ورفع أجور العمال والتقاعد، والغيت الضريبة على افقر الفئات، في نفس الوقت الذي ادخلت فيه تقنيات اتصالات حديثة على المصانع تؤمن التنسيق بينها ورفع كفاءة التصنيع بمقدار 14%.

 

الموقف الأمريكي

 

لم يعجب أللندي الولايات المتحدة، التي فعلت كل ما تستطيع لمنع انتخابه، وقامت بتقديم الدعم لمنافسيه في كل انتخابات خاضها. وأطلقت السي آي أي برنامج "فوبلت" الهادف إلى منع وصول أللندي إلى الرئاسة، أو إجهاض حكمه إن فشلوا في منعه. 

وفي وثيقة كشف عنها لاحقاً، تعود إلى عام 1970، يخبر نيكسون رئيس السي آي أي، بأن نظام أللندي غير مقبول وطلب منعه من الوصول للرئاسة أو إزاحته، ويخصص عشرة ملايين دولار للمشروع.

وفي وثيقة للسي آي أي بعد فوزه في الإنتخابات، تم التأكيد على ضرورة إحداث إنقلاب قبل تصديق الكونغرس القومي على رئاسة أللندي، وما لم تنجح الخطة فأن العمل يجب أن يستمر في هذا الإتجاه بقوة. وبالفعل تم تأخير التصديق، وكادت الإضطرابات أن تثور في البلاد وحذر اللندي حكومة سانتياغو من ذلك فتم التصديق واستلم أللندي المنصب أواخر عام 1970. وقبل ذلك بتسعة ايام اغتيل القائد العام للقوات المسلحة التشيلية، المعروف بالتزامه بالدستور بقوة، فيما يبدو محاولة لاستبداله بشخص يناسب المتآمرين.

بعد إنجاز أللندي إصلاحاته الإقتصادية، طلب الرئيس الأمريكي نيكسون من فريقه "أن يجعلوا الإقتصاد التشيلي يصرخ الماً". وتماشياً مع هذا قال السفير الأمريكي في شيلي إدوارد كوري : "لن يصل إلى تشيلي مادامت تحت حكم الندي، اي برغي... سنفعل كل ما في طاقتنا لكي تصاب شيلي بأقصى ما يمكن من الفقر والحرمان!"

وقال كيسنجر : " لا أدري لماذا يجب علينا أن نقف جانباً ونترك شيلي تتحول إلى الشيوعية بسبب عدم شعور شعبها بالمسؤولية! القضية اهم بكثير من أن تترك الأمر للناخب الشيلي ليقرر بنفسه". وانفجر الإعلام الأمريكي بتشويه صورة اللندي، فنشرت مجلت التايم على غلافها المصبوغ بالأحمر رسماً له مع مانشيت كبير : "تهديد ماركسي في الأمريكتين"! (1)

علق أحد القراء: "... قرأت الموضوع لأفهم لمن هو التهديد؟ يبدو أنه لشركات النحاس والتلفون ...أنا لا يهمني هؤلاء".

 

نيكسون يتآمر على أللندي

1970 – كيسنجر يقول لمدير السي آي أي ريتشارد هيلمز بعد أنتخاب الندي: "لن نسمح أن تهبط شيلي إلى البالوعة"

1971 – نيكسون لوزير المالية جون كونالي، بعد رفض أللندي دفع تعويضات للشركات الأمريكية المؤممة: "قررت أن نضع أللندي على الشص... إنه عدو... كل شيء مسموح به فيما يتعلق بشيلي، إضربهم على إليتهم، مفهوم؟

1973 (قبل الإنقلاب بشهرين) – نيكسون: "أعتقد أن الولد في شيلي يعاني من المشاكل"

         - كيسنجر: "لديه مشاكل هائلة..."

         - نيكسون: "لو أن الجيش فقط يستطيع أن يحصل على بعض الدعم!" (2)

 

الشركات تتآمر...

 

بدأت الشركات الأجنبية والمحلية بسحب استثماراتها وقطعت المساعدة الأمريكية التي اعتمدت عليها حكومة اليمين السابقة والتي وصل مجموعها خلال ستة سنوات إلى مليار دولار، وحددت التجارة أو قطعت من قبل أميركا وتوابعها مما تسبب في انخفاض التصدير بمقدار 24%، وفوق كل هذا هبط سعر النحاس خلال سنتين بمقدار الثلث تقريباً.

قام اليمين من خلال أساليب مختلفة بتنظيم إضرابات بين المعلمين والعمال، وإقفال معامل وأضرب الأطباء الخصوصيون ومالكي الشاحنات والمخازن التجارية، ونظم أنقلاب عسكري، تم إفشاله...ورغم كل ذلك فأن شعبية أللندي كانت في ازدياد مستمر!

 

الإنقلاب

 في صبيحة 11 أيلول، حين بدأت دبابات الجيش التشيلي تحاصر القصر الرئاسي، وطائرتان تقصفانه، والجنرال بينوشيت يستعد لإستلام السلطة، وقف الرجل المهذب الذي يبلغ الخامسة والستين من العمر - الليندي، يحمل رشاشه ويدافع عن القصر حتى النهاية.

عن تلك اللحظات كتب كابريل كارسيا ماركيز: "كانت أعظم مآثره هو المضي في طريقه الذي اختاره، لكن القدر لم يمنحه سوى شرف الموت مدافعاً عن نظام كانت أدواته قد تعفنت، وكان يسعى لتغييره سلمياً"

رفض رفاقه طلبه منهم أن يتركوه يواجه النهاية وحده، وأخرجت النساء بإلحاح منه. وفي هذه الأثناء كان أثرياء سانيتغو يشربون الشامبانيا على البالكونات إحتفالاً بالمؤامرة.

18 صاروخاً قصفت القصر، واشتعلت النار فيه من كل مكان، فطلب أللندي من رفاقه أن يسلموا أنفسهم، ولكي لا يعترضوا قال لهم أنه سيخرج كآخر شخص، لكنه لم يخرج أبداً. وعندما اكتشف المتآمرون جثة أللندي، ارسلوا لبينوشيت : “MISSION ACCOMPLISHED”

في ا لليل أعلنوا أنه مقابل كل عسكري يتعرض للهجوم فأنهم سيقتلون خمسة ماركسيين من الأسرى!

أعاد الإنقلابيون بقيادة الجنرال بينوشيت بيع الشركات التي تم تأميمها للقطاع الخاص وأعاد البنوك والتقاعد والأجور إلى ما كانت عليه ومنع النقابات والغى قانون الحد الأدنى للأجور وقلل الضرائب عن الأثرياء، انتشر الفقر والتشرد والموت جوعاً وارتفعت وفيات الأطفال بشكل كبير، وارتفعت البطالة التي كانت قد وصلت إلى 4.4% في عهد اللندي، إلى أكثر من 30%، أعلى رقم في تاريخ أميركا اللاتينية!

 

تتمة "نيكسون يتآمر" (مع كيسنجر)

 

1973 (بعد الإنقلاب بخمسة أيام)

- كيسنجر: "قصة شيلي في طريقها للتثبيت، وبالطبع فأن الصحف تذرف الدمع على حكومة موالية للشيوعية تم الإطاحة بها!"

- نيكسون: "اليس هذا رائعاً! اليس هذا رائعاً!"

- كيسنجر: " أقصد ، بدلاً من ان نحتفل.... لو كان الأمر في زمن أيزنهاور لكنا أبطالاً"

- نيكسون: "لكننا لم نفعل.... كما تعلم... يدنا ليست في الصورة هذه المرة، اليس كذلك؟"

- كيسنجر: "لم نقم بها بأنفسنا. أقصد أننا ساعدناهم... خلقنا الظروف بأعظم شكل مناسب ممكن لهم"

- نيكسون: "هذا هو الصحيح ، وهكذا سوف يعرض الموضوع".

 

الشعوب والسي آي أي.

 

قصة شيلي ليست مفردة. إنها قصة تذكر العديد من الشعوب بتجربتها مع أميركا بلا شك، فالتجربة متشابهة في العديد من النقاط إلى حد الدهشة، رغم بعض الإختلافات هنا وهناك. إنها تذكر العراقيين بالزعيم عبد الكريم قاسم وموقفه من الفقراء والشركات والتأميم والإقطاع، والمؤامرات الامريكية المتتالية التي نجحت آخرها ومضى عبد الكريم بمثل ما مضى أللندي بصليات الرشاشات، وجاءوا بعده بحثالات همجية. وتذكر الأندونيسيين بسوكارنو واستبداله بالوحش سوهارتو، وتذكر بنما بتوريخيو واستبداله بتاجر المخدرات نورريغا (الذي انقلبوا عليه لاحقاً) وتذكر هايتي بأرستيد واستبداله بسيدراس ونيكاراغوا بأورتيكا واستبداله بالوحش سوموزا والإيرانيين بمصدق واستبداله بالشاه والسافاك وhلرائع لومومبا  بالمتوحش تشومبي ..والقائمة تطول.. لقد فقدت كل من هذه الدول خيرة زعمائها وخيرة شبابها نتيجة التآمر الأمريكي الذي يبحث عن أسوأ ما في البلاد ليضعه على رأس السلطة، بالدم والقهر، وبترك الدولة حطاماً، ولم تختلف شيلي عن الأخريات من الضحايا.

 

فكتور جارا

 

ولعل اشهر من فقدتهم شيلي بعد اللندي نفسه والشاعر الكبير بابلو نيرودا الذي توفي أو قتل في المستشفى بعد الإنقلاب ببضعة ايام، مغني الشعب المحبوب فكتور جارا، المسرحي والمغني والشاعر وكاتب الأغنية وعازف الكيتار والمعلم والناشط اليساري، الذي أسهم في إحداث ثورة في الأغنية في بلاده.

كان جارا  في طريقه إلى الجامعة التكنولوجية حيث كان محاضراً، وبات تلك الليلة مع الطلاب ينشد لرفع روحهم المعنوية..

في اليوم التالي أخذوا جارا مع الاف من المعتقلين إلى ملعب شيلي (الذي أطلق عليه اسمه في 2003)، حيث مورست ضدهم عمليات التعذيب والقتل من قبل قوات الإنقلاب، وضرب جارا وتم تعذيبه مرات عديدة، ثم كسروا أضلاعه وعظام يديه، وطلب منه الجنود ساخرين – حسب رواية بعض رفاقه – ان يعزف الغيتار لهم وهو في هذه الحالة، فما كان منه إلا أن بدأ بغناء أغنية "سوف ننتصر" ! فاستشاط الإنقلابيون غضباً وانهالوا عليه بالضرب، ثم قاموا بصليه بالرشاشات.

في 16 أيلول وجدت جثته في إحدى ضواحي سانتياغو وقد اخترقتها 44 رصاصة.

 

الكلمات الأخيرة..

 

في الساعة التاسعة إلا ثلث صباحاً اعلنت مجموعة من الضباط الكبار وعلى رأسهم أوغستو بينوشيت استيلائهم على السلطة في البلاد. وعرض على الرئيس أللندي مغادرة البلاد مع عائلته في طائرة خاصة، على أن يقدم استقالته، فرفض بلا تردد. ومن خلال محطة الإذاعة الأخيرة التي لم تسقط بيد الإنقلابيين أوصل آخر كلماته إلى الشعب الشيلي، فقال:

 

" ستكون هذه بالتأكيد آخر مرة أتكلم فيها معكم.. لن يتمكن صوتي من تشجيعكم ثانية، لكنكم ستستمرون في سماعه وسأكون معكم دائماً، وعلى الأقل فسأبقى في ذاكرتكم كرجل مخلص للبلاد. على الناس أن تدافع عن نفسها دون ان تلقي بها في التهلكة. يجب أن لا يسمحوا لأحد بأن يضطهدهم أو يخضعهم. لدي الثقة بشيلي ومستقبلها. سيتمكن آخرون من عبور هذه اللحظة المرة التي تحاول الخيانة فيها أن تفرض نفسها علينا. إنني على ثقة أن تضحيتي لن تكون بلا جدوى. تعيش شيلي، يعيش الشعب، يعيش العمال".

 

***

يكون للأغنية معنى،

عندما تنبض مع القلب

وهي تهتف بالحقيقة

لا أن تردد الهراء

أو تقلد ما يأتي عبر الحدود

 

أغنية القبرة الصداحة

من أعماق الأرض

من هناك ينطلق كل شيء

الأغنية الجريئة

ستكون دائماً

أغنية جديدة

 

تلك كانت سطور من أغنية لفتكور جارا...أترككم للتمتع بها هنا:

Yo no canto por cantar - Victor Jara

https://www.youtube.com/watch?v=4xRJ6jbCv1o

 

ويمكنكم مشاهدة الإنقلاب وقصف القصر الرئاسي في هذا الفلم بأجزائه الستة على اليوتيوب (3)

(1) غلاف مجلة تايم مع مانشيت: "تهديد ماركسي في الأمريكتين"

http://img.timeinc.net/time/magazine/archive/covers/1970/1101701019_400.jpg

 

(2) نيكسون يتآمر على أللندي
 
http://www.democraticunderground.com/101673154

 

(3) The Other 911 - Part 1/6

 http://www.youtube.com/watch?v=Y_MZdjvo6WE

 

روابط أخرى

The Other 9/11 - Salvador Allende's Last Speech
http://www.informationclearinghouse.info/article36199.htm

 

في خطابه في الأمم المتحدة عام 72 اشتكى من تسلط الشركات الكبرى وهيمنتها على البلاد.

Salvador Allende UN Speech 1972 english subs

http://www.youtube.com/watch?v=vbZHXHOMOz0

 

a documentary: The War on the Democracy

from John Pilger, everyone should take the time to see this

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق